قصة “الرسالة”.. أحمد حسن الزيات في عيون عباس خضر

بواسطة | يونيو 29, 2024

بواسطة | يونيو 29, 2024

قصة “الرسالة”.. أحمد حسن الزيات في عيون عباس خضر

كتب الأديب عباس خضر عديدًا من السِّيَر والمذكرات التي تصف حياته وتجربته، مثل كتابه “خطى مشيناها”، و”هؤلاء عرفتهم” و”ذكرياتي الأدبية”، وتتيح لنا سيرة عباس خضر إطلالة على شخصية الأديب أحمد حسن الزيات، خصوصًا مع عودة القراء لأدب الزيَّات وصدور عديد من الكتب عنه، مثل “ذكرى عهود”، وهي سيرة جمعها الدكتور عبد الرحمن قائد من بطون المقالات، وكتاب “سِيَر ورجال: تراجم من وحي الرسالة”، الذي جمعه الدكتور أيمن عيسى أحمد.

غادة الكاميليا

يحكي عباس خضر أنه لم يكن يعرف أحمد حسن الزيات قبل صدور مجلة “الرسالة”، ولم يكن قد قرأ له شيئًا قبل ذلك. وفيما، بعد عند اشتغاله ببحث عن “نشأة القصة القصيرة”، وما اقتضى هذا البحث من الاطلاع على الصحف والمجلات التي كانت تصدر إبَّان تلك النشأة، عرف أن الزيات كان يكتب على قلة، ورأى له مقالات في جريدة “السفور”، التي كانت تصدر نحو عام 1919م، وتعنى أكبر عناية بالأدب والثقافة وتنشر للأعلام والرواد، مثل محمد تيمور، وشقيقه محمود، ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، وغيرهم.

رأى الأديب عباس خضر مقالات لأحمد حسن الزيات في مجلة “السفور”، فقد ترجم حلقات من رواية “غادة الكاميليا”، بأسلوبه المتفرد في الترجمة والتعريب، وقال لخضر بعد اتصاله به – عن تلك الترجمة- إنه شرع فيها مشتركًا مع أحمد زكى، ثم تركها لزكي يترجمها وحده، لأن أحمد زكى كان يحب المغنية منيرة المهدية، وأراد أن يعبر عن تقديره لها من خلال “مارجريت”، بطلة الرواية. وفعلًا ظهرت رواية “غادة الكاميليا” في كتاب مترجم بقلم الدكتور أحمد زكي، بعد أن نشرت فصولها في مجلة “السفور”.

ظهور “الرسالة

وحتى عندما ظهرت “الرسالة” لم يكن اسم أحمد حسن الزيات هو الاسم الرنَّان الذي يجذب إلى المجلة، بل أعلن عنها باسم لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي أصدرتها أولًا، وكان الزيات – رئيس التحرير- أحد أعضائها، ثم انفصل بها الزيَّات عن اللجنة بعد مدة، وكان يقال في الإعلان إنه يكتب فيها أساتذة الجامعة، وفعلًا كان يكتب فيها من هؤلاء الأساتذة طه حسين، وأحمد أمين، وأحمد زكي.

يخبرنا عباس خضر بأن الزيات قضى سنوات في العراق مدرسًا، وجمع مبلغًا من المال استعان به على إصدار مجلة “الرسالة” إلى جانب عون لجنة التأليف، وابتدأ الزيات يأخذ مكان الصدارة بعد الانفصال وبعد انحسار مد الجامعة وأساتذتها، وحلَّ محلهم آخرون من كبار الكتاب ومن غير الجامعة، مثل الرافعي والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد وسيد قطب وسعيد العريان ومحمود شاكر ومحمود الخفيف، وقد تبيَّن بعد ذلك أن هؤلاء كانوا أكثر تأثيرًا وإخصابًا للحياة الأدبية، ومن الأوَّلين بقي أحمد زكي في الرسالة يكتب مقالاته العلمية المعروفة، خصوصًا “قصة الميكروب”، وكذلك الباحث المؤرخ المدقق محمد عبد الله عنان.

كان عباس خضر عند إصدار مجلة “الرسالة” يغيِّر جلده، كان طالبًا في السنة الأولى من القسم الثانوي الأزهري، وقد بدأ يفتح عينيه على عالم جديد غير عالم الأزهر، وعندما صدرت مجلة “الرسالة” سنة 1932م، كانت أمنيَّةً تحققت وحصل لهذا الجيل الشعور بالفرح والسرور، وأقبلوا عليها إقبال الظامئ على ما يبلُّ غُلّته، إذ كانت “السياسة الأسبوعية” و”البلاغ الأسبوعي” قد توقفتا عن الصدور، ووجدت “الرسالة” مكانًا خاليًا فملأته.

لم يكن المكان خاليًا من المجلات الأدبية فقط.. بل كان خاليًا من شيء كان غامضًا في نفوسهم، هو الذي عبرت عنه عبارات كُتبت على ظهر الغلاف الأخير لمجلة “الرسالة”، فهي تعبِّر عن الأصالة العربية وتغترف من الثقافة العالمية، أو كما قالت المجلة: “تربط الشرق بالغرب على هدى وبصيرة”، وكانت مواردها مصداقًا لتلك العبارات.

خضر يتعرَّف الزيات

بدأ عباس خضر يلتفت إلى الزيات بوصفه كاتبًا عربيًّا ذا أسلوب ناصع يشبه أسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي رضعوه صغارًا، مع انتفاء عيوب في أدب المنفلوطي أدركوها كبارًا، كلاهما أزهري مثل خضر وجيله غيَّر جلده وبقيت فيه آثاره من تراث عريق.

كانت أول مرة يلتقي خضر فيها الزيات شخصيًّا عندما كتب خضر مقالات “شعراء الموسم في الميزان”، وهو طالب علم بالقسم الثانوي الأزهري، وطالب أدب في كل مكان، والواقع أنه لم يكن في دراسته الأزهرية إذ ذاك بالطالب الذي ينبغي أن يكون، كان مخلخلًا معنويًّا وماديًّا كما يخبرنا في سيرته، أما معنويًّا فكان ينشد ثقافة جديدة بالنسبة إلى ما نشأ فيه بالأزهر، ثم تبيَّن له أنه خُلق لشيء آخر، ولعله الأدب الذي يبحث عنه، وأما ماديًّا، فكان خضر شابًّا ضائعًا أو مًضيَّعًا.. لا يعرف من أين يرتزِق، يضرب هنا وهناك، مرة على هدى ومرات على غير هدى.

ألقى خضر بالمقال الأول لفرّاش مجلة “الرسالة”، هناك في شقة بالدور الأرضي من منزل في حي عابدين، استأجرها الزيات للمجلة بعد انفراده بها بعيدًا عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، ونشر المقال الأول، وذهب خضر بالمقال الثاني، ثم الثالث وهكذا، فلما كان المقال الرابع الأخير أسرع الفرّاش يقول لخضر: كلم الأستاذ! ودخل خضر على الأستاذ الزيات في مكتبه وهو متهيِّب مدهوش…وكان مجمل الانطباع لهذا اللقاء الارتياح إلى هذه الشخصية المتفردة.

مصححًا في “الرسالة

كان لخضر صديق هو الشاعر أحمد الزين، وتوطدت صداقتهما، وكان الزين يعرف حالة خضر وبحثه عن عمل، فانتهز فرصة ترك مصحِّح “الرسالة” عمله، فكلم الزيات ليحل خضر محله، ووافق الزيات.

تقابل الزيات وعباس خضر، وقد علم أنه طالب بدار العلوم التي لحق بها في تلك الفترة، وقال له وهو يشرح عمل المصحِّح اللغوي: “إنك ستكون مدرسًا تصحح كراسات الإنشاء للتلاميذ، وهنا لن يختلف عملك عن ذلك كثيرًا، ستصحح مقالات الكتاب وتنقيها من الأخطاء اللغوية والنحوية”.

وهنا وقفة لأمر مهم في تاريخ الحياة الأدبية كما يرصده عباس خضر، ذلك أن أخطاء الكتاب في اللغة والنحو ليست جديدة الآن، بل هي عريقة، فباستثناء كتاب متمكنين من اللغة، أمثال الرافعي والعقاد والمازني وزكي مبارك والعريان وسيد قطب، كان كثيرون غيرهم يقعون في تلك الأخطاء، ولكن القراء لا يرونها، إذ كانت أقلام التصحيح تعمل وراءهم وتنظف كتاباتهم، وإن أفلت خطأ برز له في “بريد الرسالة” مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله.

وممن كانوا لا يجيدون التعبير العربي السليم، مع اقتدارهم على المضمون الجيد، الكاتب الداعي إلى القومية العربية ساطع الحصري، كان خضر يتعب في تقويم عباراته، وإن جلس معه وجد صعوبة في فهم ما يقول، والسبب أن ساطع قضى الشطر الأول من حياته مثقفًا عثمانيًّا يتحدث التركية، ثم تحول إلى القومية العربية بعد سقوط العثمانيين وانضمامه إلى الملك فيصل في سوريا ثم العراق.

وكان الزيات في أول الأمر لا يكتفي بتصحيح خضر، بل يطلب بروفة نظيفة، ويُجري فيها تصحيحه، ثم يطلع خضر على تصحيح الزيات ويستفيد منه. ويتضح لنا مما يرويه خضر حرص الزيات على ظهور جميع مواد مجلة “الرسالة” خالية من الأخطاء اللغوية، ومن هنا كانت ثقة رجال التعليم بمجلة “الرسالة”، إذا كانوا حريصين على ألا يقدم للطلاب كلام ملحون، ولذلك قررت مجلة “الرسالة” في القراءة بالمدارس والمعاهد.

يضاف إلى ذلك أن الكتَّاب كانوا يخجلون جدًّا من وقوع الأخطاء في كتاباتهم، وكان النقاد لا يرحمونهم، ولم يكن أحد يقول لهؤلاء النقاد إنكم رجعيون جامدون لأنكم تنقدون اللغة! ومن الكتّاب مَن بدأ يخطئ في اللغة، خصوصًا في كتب يصدرها، ثم عيب عليه ذلك، فاجتهد حتى صارت لغته سليمة وقويمة، ومن هؤلاء محمد حسين هيكل ومحمود تيمور، وهنا يشرح خضر أن الخجل يدل على الشعور بالنقص، والشعور بالنقص أول الكمال.

الزيات بعيون خضر

كان الزيات مقترًا مدبّرًا، حسب وصف خضر، أحسن تدبير المال واستغل كل الظروف للإثراء، واستمرت المجلة ناجحة نحو عشرين سنة، بفضل التدبير الذي شمل جميع النواحي، من أدبية وصحفية ومالية. فمن الناحية الأدبية والصحفية كانت “الرسالة” استجابة لمتطلبات المجتمع الفكرية على وجه عام، ومن الناحية المالية خدمتها أشياء كثيرة، لعل أولها وأهمها أن الكتّاب لم يكونوا يتطلعون إلى مقابل مادي، ومَن تطلع منهم اكتفى بالقليل، كان معظمهم موظفين ذوي مرتبات تواجه حاجات العيش مواجهة قوية مقتدرة.. ومن هنا كسب الزيات وجمع ثروة.

والمعروف أن مكسب الصحف والمجلات يأتي معظمه – إن لم يكن كله- من الإعلان، ولم يكن ذلك يغيب عن فطنة الزيات، فكان بالمجلة موظف خاص بالإعلانات، وكان يرسله إلى أصدقائه في الوزارات والمصالح ليحصل على الإعلانات. لم يكن القارئ يرى هذه الإعلانات، فقد كانت تُطبع في ملازم الأعداد وكانت هذه تأتي بدخل كبير، وكان للسكة الحديدية إعلان دائم.

قال توفيق الحكيم مرة وقد سأل خضر عن الزيات: كيف هو وأين هو الآن؟ فقد كان الزيات يتنقل كثيرًا بين القاهرة والمنصورة، ويقضي أيامًا كثيرة بقريته “كفر دميرة” المتاخمة للمنصورة.

وقال توفيق الحكيم: الأدب لا يحب الضرة! ومعنى هذا أن الأديب لكي يكون أديبًا حقًّا لا بد أن يعكف على الأدب فقط، ويعيش في محرابه ولا ينشغل بغيره، فإذا اضطره العيش إلى هذا الانشغال كان هذا على الهامش ولا يكون مبرزًا فيه، وهذا الحُكم من توفيق الحكيم جائرٌ في ظني على الزيات، كأنه مشغول بأشياء أخرى، فهذا الحكم بالتفرغ التام للأدب ينفي سؤال أوضاع الكاتب المادية وتدبيره شؤون حياته، والزيات قضى عقدين في إدارة مجلة من أهم المجلات الأدبية العربية، فكيف كان مشغولًا بأمر آخر أو ضرة أخرى للأدب؟

ورأى عباس خضر رجلًا من رجال الوطنية في العراق هاربًا من السلطة المستبدة في بلده ولائذًا بالزيات، وقيل لخضر إنه كان من تلاميذ الزيات، كان هذا الرجل يقيم في حجرة أُعدت له في إدارة المجلة، ويأتي إليه الطعام في مواعيده من منزل الأستاذ الزيات.

جمهور “الرسالة

يخبرنا عباس خضر بأن توزيع الرسالة بلغ ما لم تبلغه مجلة أدبية عربية قط، فقد وصل نحو ستين ألف نسخة، وكان من عوامل هذا الانتشار‏ الذي كانت تحسدها عليه المجلات العامة التي تتبرج لجذب القراء‏ أنها فتحت باب الاشتراك المخفض للطلبة ولطائفة أخرى كبيرة العدد تعيش في أعماق الريف وأنحائه، هي طائفة المعلمين الإلزاميين، أي الذين كانوا يدرسون في (المدارس الإلزامية) المنشأة في كل قرية، وكانوا على مستوى لا بأس به من التعليم ومن الإعداد التربوي في مدارس المعلمين الأولية، وكان لديهم الفراغ في القرى للقراءة، وبهم رغبة في التطلع إلى عالم الفكر وأشعة الأدب المنبعثة من القاهرة.

ويوضح عباس خضر أن مجلة “الرسالة” في ذلك الحين كان يتحلّى ويتجمّل بحملها حتى مَن يتعذَّر عليه فهم محتوياتها من نثر وشعر، فقد كان إمساكها باليد “عياقة”، أي فخر الشباب والكهول.

مقال الزيات الافتتاحي

كان الزيات يعتكف في مسكنه يوم الجمعة، لا يبرحه ولا يقابل أحدًا من الخارج، ويوم السبت يشرع في كتابة المقال، يكتبه وينقحه، ويتأنق فيه، وتتراءى فيه فنون البلاغة جميعها، من سجع وجناس وطباق دون تكلُّف، فتخرج إلى القراء آية في الروعة وجمال الديباجة وحلو اللفظ والمعنى، بأسلوب ناصع البيان، حتى إن الأديب وديع فلسطين رأى واحدة من الأديبات تزين جدران غرفتها بمقالات الزيات محاطة بإطارات جميلة.

ويرسل الزيات المقال على أقساط إلى المطبعة، وكان العمال يشكون من خطه الرديء ومن خط عبد الوهاب عزام، الذي كان رديئًا جدًّا. والناس تنظر إلى القصيدة ذاتها ولا تسأل في كم قالها الشاعر، وكذلك مقالة الزيات يعجب بها القراء ولا يسألون في كم من الوقت كتبها.

كان الشاعر أحمد الزين معجبًا بكتابة الزيات إلى درجة الهوس، حتى إنه كان يهتف وهي تُقرأ عليه (كان ضريرًا) ويقول: الله…الله…! ويسأل عباس خضر: ألا تعجبك؟ فيقول: إنها مثل الدوامة تلف حول نفسها وتحدث منظرًا، ولكنها لا تنطلق كتيار النهر.

لكن هذا الرأي تغيَّر عند خضر مع حملات الزيات على الجهل والفقر والمرض، وعندها هالته روعة المضمون، التي تتحلّى بجمال الشكل الفني، وكتب عباس خضر: “إن نثر الزيات يغني ويطرب كأروع الشعر”. وقد ألقى خضر عن كاهله مزاعم الحاقدين على الزيات القائلين إن أدبه أدب كساء، فلقد وجد الكساء الجميل يكسو جسمًا جميلًا، ثم يسأل: لماذا نأبى الجمال في الكلام ونحن نعشقه في كل شيء؟

حوار عجيب بين الرافعي والزيات

يحكي عباس خضر أن بعض الأدباء لم يكن يتقاضى أجرًا على مقالاته، مثل توفيق الحكيم، الذي ظل يكتب مجانًا، ثم طلب أجرًا فأُعطي ثلاثة جنيهات على المقال، وكذلك مصطفى صادق الرافعي، الذي وصل أجره إلى خمسة جنيهات، وذلك بعد حوار شاق مع الزيات، قال الرافعي فيه إن عنده علمًا يقينيًّا بأن توزيع المجلة زاد، بل تضاعف بسبب مقالاته، وكان ذلك صحيحًا، فقد كانت مقالات الرافعي خصوصًا تأسر القراء، لما يرون فيها من قيم إسلامية وأسلوب عربي متين.

شهد عباس خضر جلسة بين الرافعي والزيات لا ينسى منظرها، فالحوار الذي دار أمره عجيب، جاء الرافعي من طنطا، حيث يقيم، إلى إدارة مجلة “الرسالة” بالقاهرة،‏ ولم يكن الزيات موجودًا، فدخل إلى مكتبه وفرش سجادة الصلاة وصلى، ثم جاء الزيات وتصافحا ولم يسمع خضر صوتًا، فقط مصافحة صامتة، دهش خضر، فلم يكن يعلم أن الرافعي أصم.

جلس الأديبان الكبيران وأمسك كل منهما بقلم وجعل يكتب لصاحبه ما يريد أن يقول، فهم خضر من اللحظات الأولى أنهما يتبادلان التحية، فهم ذلك من أساريرهما، ثم لاحظ خضر أن هذه الأسارير تأخذ شكلًا يدل على جدية الحديث، ويدل أحيانًا على غضب يجتهد صاحبه في أن يكتمه، أفضى موظف بالمجلة إلى عباس خضر بتفاصيل ذلك الحوار بين الرافعي والزيات، فقد كان هذا الحوار يتناول مسألة الأجر الذي يأخذه الرافعي على مقالاته.

وقرأ عباس خضر ما كتبه محمد سعيد العريان في كتابه عن “حياة الرافعي” وقصص حبه للآنسة مي زيادة، فعادت به الذاكرة إلى تلك الجلسة، وأخذ يتخيل كيف كان الحبيبان الرافعي ومي يتحدثان.. لا بد أنهما كانا‏ يتناجيان‏ بالنظرات، وبالغزل المكتوب منه،‏ والدلال المكتوب أيضًا بينهما، وتخيَّل خضر الآنسة مي مكان الزيات في ذلك الحوار، وأن الرافعي تظهر عليه علامات الغضب وهو يبدي بالكتابة غيرته من العقاد وغيره من المتنافسين على حب مي، وهو يقول لها إنه يخلدها في أدبه، فترد غاضبة بأنها تخلد نفسها بقلمها، وأنها صاحبة الفضل عليه لأنها تُلهمه.

السخط على الزيات

كان الزيات محايدًا لا ينتمي للأحزاب السياسية، وأوقف مقالات محمد فريد أبو حديد عندما وجد فيها إسقاطًا على خلاف بين الملك فاروق ورئيس الوزراء، مصطفى النحاس، وفزع الزيات من أن تُستغل مجلته هذا الاستغلال السياسي، وكان يخشى السلطة السياسية متمثلة في الملك فاروق.

يسرد عباس خضر أن أباه الأدبي، الزيات، كان يرضعه أحيانًا كراهية منافسيه وخصومه عندما كان فتى غِرًّا، مثل العداء لمجلة “الثقافة” التي رأس تحريرها أحمد أمين، وكم ضحكوا متندرين على اسم مجلة “الثقافة” وكانوا يسمونها “السآفة” كما يُنتظر أن ينطقها باعة الصحف والمجلات، لكن على رغم من تلك الرضاعة، كان خضر يجلّ فريد أبو حديد لمواقفه الشجاعة.

ويحكي عباس خضر أن الساخطين على الزيات كانوا كثيرون، أغلبهم ممّن لم ينشر لهم في “الرسالة”، وكان الزيات حريصًا على اختيار المادة الصالحة للنشر، ولم يعبأ بمن كانوا يهاجمونه في الصحف لأنه لم ينشر لهم، ومنهم نقاد قالوا إن أسلوبه “متكلف يميل إلى التزويق والوصف ولا يحمل مضمونًا ذا قيمة”.

وهنا يقول عباس خضر: “كتابة الزيات كانت حمراء الخدين، كما عيب الورد، ولكنها كانت تحمل مضمونًا ذا شأن، فهو أول كاتب نبّه على الثالوث الذي يعمل في بنيان الأمة بالتخريب والتدمير، وهو الجهل والفقر والمرض، وكانت له حملات كثيرة على الإقطاع إبان استشرائه، ومما يُذكر أنه كتب يدعو إلى نظرية الدكتاتور الصالح، زاعمًا مع من زعموا أن حال هذه الأمة لا يصلحها إلا هذا الدكتاتور المرتقب. ولما جاء جمال عبد الناصر استبشر به وكتب في الثناء عليه كثيرًا، حتى قال مرة في إحدى كتاباته ما معناه إن محمدًا جاء داعيًا إلى الروحانية، وصلاح الدين الأيوبي إلى المادية، أما جمال عبد الناصر فقد شملت دعوته الناحيتين. وكان هذا مثارًا لثورة بعضهم عليه، وإن كان مسار هذه الثورة في الخفاء.. وعُدَّ عليه ذلك من قبيل النفاق”.

وهذا تلخيص غني من عباس خضر لمواقف الزيات السياسية، التي تجعله ضمير الأمة في أحيان كثيرة، لكنه وقع في مجاملة أهل السياسة والحكم كما يظهر في كتابه “سِير ورجال”، كما سيأتي معنا في المقال القادم.

البحبوحة بعد التقتير

انقطع خضر عن الزيات مدة طويلة بعد أن أتم الدراسة في دار العلوم، وعندما عاد من هذا الانقطاع، لاحظ خضر أن الزيات في تلك الجولات ينفق بسخاء على خلاف ما عُرف عنه من تقتير، ويدخن على خلاف عهده الأول، إذ كان لا يدخن، ولعله تطور من هذه الناحية، إذ وجد نفسه قد اغتنى ويجب أن يمتع نفسه ويعيش في بحبوحة، وقد اهتم بصحته اهتمامًا ملحوظًا، ولم يعد يشكو من المرض كما كان من قبل، وظل قلمه فتيًّا وفكره خصبًا إلى آخر أيامه، فقضى حياته طولًا وعرضًا. وهذا التعبير قريب من تعبير الزيات الذي أخذ عنه وكان السابق فيه، إذ قال في رثاء الشاعر علي محمود طه: عاش حياته بالعرض، لا بالطول.

مقلب في الزيات

يحكي خضر أن الأديب كامل الشناوي قد عمل “مقلب” في الزيات، فقد أرسل بكثير من القصائد للنشر، لكن الزيات لم ينشرها، ثم وقّع الاسم والمكان بعنوان حضرموت أو شيء يدل على أنه أديب غير مصري، وقد عُرف عن الزيات أنه يؤثر النشر للإخوة العرب غير المصريين، ولو كان مستوى ما يُنشر أقل، وذلك بهدف تحقيق انتشار المجلة في بلادهم، وقد أعدها للتعبير عن جميع العرب، بحيث تكون مجلة العرب أجمعين، فكانت رسالة من العرب للعرب في كل مكان، ونُشرت القصيدة في مجلة “الرسالة”، وكانت “مقلبًا” ناجحًا من مقالب اشتُهر بها كامل الشناوي.

كان الزيات دائمًا ظريفًا رقيقًا، وكان ظرفه من نوع هادئ حيي، ودعاباته مهذبة، فقد حدّث الزيات خضر ذات مرة عن توفيق الحكيم، فقال وهو يبتسم إن الحكيم ليس بخيلًا كما يُعرف عنه… فقد اعتاد أن يدعوه إلى “عزومة حولية”، أي تحدث مرة في العام.. وكان الحكيم يقيم في فندق، إذ لم يتزوج بعد، فكان يدعو الزيات إلى “الحولية” في أحد المطاعم، فيطلب للزيات “واحد غدا” أو “واحد عشا”، ويجري بينهما الحوار الآتي الذى يبدأه الزيات: وأنت؟ ألا تأكل؟

– الحكيم: والله… أنا شبعان.

– الزيات: طيب «نأنأ».. الأكل كثير.

– لا بأس، ويبدأ الحكيم مشاركته الطعام.

لم يرث عباس خضر مجلة “الرسالة” عندما احتجبت، بل رأى أن المجلة العريقة أُهملت وتخلَّفت فكان هذا مصيرها المحتوم.. وردَّ عليه الزيات متهمًا خضر بالتحامل، والتقيا بعد ذلك عدة مرات وكأن شيئًا لم يكن.. ولخص عباس خضر مشاعره تجاه الزيات بقوله: “كنت أثور أحيانًا على أبي الزيات، ولكن لم أكن أحب أن يهاجمه أحد”.

1 تعليق

  1. حمد بن سويّد

    شكراً للأستاذ محمد على هذه المقالة اللي أكثر من رائعة استمتعت بها كثيراً وتعرفت عن قُرب عن علاقة الأستاذ عباس خضر بأستاذة الزيات، ولعلني اقرأ لعباس خضر في قريباً.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...