أزمة القس الموقوف.. أين “تكوين”؟!

بواسطة | يونيو 24, 2024

بواسطة | يونيو 24, 2024

أزمة القس الموقوف.. أين “تكوين”؟!

لا تنتظر من الكنيسة أن تعلن أسباب العقوبات التي أوقعتها على أحد القساوسة في الأيام الأخيرة!

فقد كنت على يقين من ذلك وأنا أطالع البيان الذي نُشر من جانب الكنيسة، بعد ردة الفعل الغاضبة على منصات التواصل الاجتماعي.. والبيان على طوله لم يقل شيئاً، مع أنها المرة الأولى التي تواجَه فيها الكنيسة بهذا الجدل إزاء قرار كنسي على هذه الشاكلة، ذلك بأننا صرنا في زمن السوشيال ميديا، وهذا القس معروف لرواد التواصل الاجتماعي، وقد ظهر قبل أيام في موقف حيّاه المصريون عليه، واعتبروه نموذجاً لسماحة الأديان، وللوحدة الوطنية!

فقد نشر القس دوماديوس حبيب مقطعاً له وهو يشتري أضحية من أحد مزارع الماشية لتوزيعها على المسلمين في عيد الأضحى؛ الأمر الذي نظر إليه البعض على أنه السبب في القرار الكنسي بتوقيع العقوبات التي نزلت عليه، ولم تصل على أي حال إلى شلحه وتجريده من الرتبة الكهنوتية، كما هو رائج، فالعقوبات تتلخص في منعه من الظهور في الإعلام أو التواصل الاجتماعي (بكل صوره)، مع إيقافه عن الخدمة الكهنوتية، ومنحه فرصة لمراجعة نفسه وتصرفاته حرصاً على خلاص نفسه، مع قضاء فترة خلوة روحية في أحد الأديرة القبطية، وتجريده من رتبته الكهنوتية حال مخالفته لتلك التعليمات لمدة عام!

البُعد.. جفاء!

الأصل أن مثل هذه القرارات لا تُعلن أسبابها، وإذ كنتُ قد أوليت هذا الملف اهتماماً خاصاً قبل ثلاثين عاماً، وتعرفت على بعض القساوسة الذين وقع عليهم العقاب الكنسي، وضربت بيني وبين أحد رموزهم صداقة، فقد حاولت أن أعرف منه سبب عزله، دون جدوى، وقد انتهزت الفرصة عندما التقيت بالبابا شنودة للوقوف على الأسباب منه، لكنه لم يفصح عنها، وعندما سألته: لماذا هو دون غيره صبر عليه، ولم يجرده من رتبته الكهنوتية واكتفى بوقفه فقط؟ أجابني: لم تحن ساعته بعد!

وكان هذا القس هو “إبراهيم عبد السيد”، الذي استضفتُه بجريدة “الأحرار” لكتابة عمود أسبوعي بعنوان: “نحو فكر مسيحي مستنير”، قبل أن تتدخل الكنيسة وتمنعه من الكتابة، وقد أصدر مجموعة كتيّبات عن أموال الكنيسة، التي لا تخضع لرقابة الدولة، وغير ذلك، وكان بعضها تجميعا لمقالات كتبها في عموده هذا؛ أفكانت فِكَره هذه هي التي عوقب بسببها بالإيقاف عن العمل الكنسي، أم كان ذلك وليد الخلاف، والبعد جفاء كما يقولون؟

إن “إبراهيم عبد السيد” كان أخطر هؤلاء القساوسة، من حيث فكره، ومن حيث انتشاره، فقد كان حاضراً في كثير من المنتديات الفكرية بزيه الكهنوتي، فهل مثّل له هذا حصانة في مواجهة البابا مع غضبه عليه، لدرجة أنه رفض أن يصلى عليه في أي كنيسة أرثوذكسية بعد وفاته، رافضاً في ذلك وساطة الدكتور سعد الدين إبراهيم؟!

رغم هذا الغضب، فإن البابا لم يخرق تقاليد الكنيسة ويدلي لي بأسباب عقوبة منعه من العمل، مع أنه بدا ودودا للغاية في المقابلة، على نحو أشعرني أننا “معرفة قديمة”، وكثيراً ما كان يطلب إغلاق تسجيل المقابلة هذه، فيدلي ببعض الآراء التي ليست للنشر، وفي النهاية طلب عدم نشر بعض الردود، وكان له هذا، ولم يكن منزعجاً وهو يلتقي بصحفي لأول مرة، وهو يقول كلاماً يرى أنه غير مناسب للنشر، وهذا نتاج ثقة تولدت في هذا اللقاء الأول والأخير، وقد كان الرجل من الذين يألفون ويؤلفون بسهولة، فتخللت اللقاء أحاديث جانبية، رواها بفكاهته المعروفة عنه، عن ميلاد حنا وغيره من الرموز القبطية، ومع هذا لم يذكر لي أسباب الموقف من القس إبراهيم عبد السيد، هو فقط أفصح عن أنه ينتظر اللحظة المناسبة لتجريده من رتبته الكهنوتية!

ولأن المجالس أمانات، فلم أنقل للقس إبراهيم عبد السيد تربص البابا به، رغم الصداقة التي نشأت بيننا، ومدِّه لي بوثائق عن جماعة الأمة القبطية التي تمردت على البابا، وتاريخ المعارضة في الكنيسة المصرية، ضمن خطتي لتأليف كتاب حولها، تراجعت عن كتابته بعد أن استكملت مادته، فلست محظوظاً في موضوع تأليف الكتب هذا.

ولأن قوة الصداقة كانت تسمح بالمزاح، سألني ذات مرة عن “أخبار خطيبتي”، وكان مشروع زواجي متعثراً، فتدخلت السيدة الفاضلة زوجته في الحديث بقولها: أبونا يصلي لك! وصحت في وجهه: الآن عرفت أسباب تعثر الموضوع.. توقف عن الصلاة لي لو سمحت!. وضحك ثلاثتنا.

وفي منزله التقيت بكثير من القساوسة الذين أوقفتهم الكنيسة، وكانوا إضافة لهذا الكتاب الذي لم يصدر!

وقوع الحرج:

ما علينا، ففي واقعة القس دوماديوس حبيب، لم تقم الكنيسة بإذاعة العقوبات، لاسيما مع قس معروف لدى الناس بمقطع الأضحية، وهي لا تستطيع أن تتخلى عن تقاليدها وتذكر الأسباب، فهل السبب أن هذه الأضحية تخالف تعاليم الدين المسيحي؟!

هنا يقع الحرج، وإن تطوع أحد الصحفيين فذكر أسباباً أخرى عن سفر القس إلى إيران، وإشادته بالشيعة، وتشبيهه لمقتل الإمام الحسين بصلب السيد المسيح، ونحو ذلك.. بيد أن الأمر يظل تطوعاً، والقرار لم يكن عقب الزيارة أو الإدلاء بهذا الرأي، ولكن بعد مقطع الأضحية هذا، وهنا يأتي دور الذين تطوعوا بالرد والتبرير، لأن الأمر وضع جماعات التنوير الزائف في حرج بالغ، لاسيما وأن حركة “تكوين” معنية بفكرة الدولة المدنية، ومواجهة الرجعية الدينية!

ونحن أمام مشهد تمثل فيه العقوبات في حد ذاتها إشكالية، مثل المنع من الظهور الإعلامي، فلا يكون للرجل حق الدفاع عن نفسه أمام الرأي العام الذي نُشرت عليه هذه العقوبات، وهذا حق أصيل من حقوق الإنسان! كما يمثل القرار بالحكم عليه بالبقاء في خلوة روحية في أحد الأديرة لمدة عام، احتجازاً غير قانوني، في غير الأماكن المخصصة للاحتجاز، فلم يثبت أنه فعل هذا طواعية!

وجاء دور المتطوعين لتبرير القرار، وقد رد أحدهم بأن الرجل راهب، وبالتالي فالدير هو مكانه الطبيعي، وهذا ليس صحيحاً فالرجل قس لا راهب، لكن صاحب التبرير يستغل الجهل بطبيعة الموقعين فيسوق هذا الدليل، ونذكر أن البابا شنودة هو من تنسب إليه ظاهرة إطلاق الرهبان في الخدمة والعمل الكنسي العام، داخل مصر وفي دول المهجر، ولم يكترث بالاعتراض على ذلك، ومخاطره، وقام بتغيير طبيعة الأصل والاستثناء في سلك الرهبنة، لأن البابا راهب!

وهناك من روج لفكرة أن هذه القرارات من سلطة الكنيسة، وأن من يلتحق بالعمل الكنسي يقر بخضوعه لهذه القوانين مع ما فيها من تعسف في استخدام السلطة، وقد يكون هذا الدفع يصلح للاحتجاج على القس نفسه، لكنه ليس ملزماً لجماعة التنويريين الذين هم في الأصل ضد الكهنوت وما يمت له بصلة، ومع فكرة دولة القانون، التي ينال منها وجود جماعة لها لوائحها الخاصة، وقوانينها العرفية!

التحرش بالدين الإسلامي:

إن هذا ملف يقفز عليه دعاة التنوير الزائف، لأنهم في الأصل ليسوا مع الاستنارة ولكنهم في حالة تحرش بالدين الإسلامي، الذي صار لكل جاهل أن يقحم نفسه في موضوعاته بغير علم، والأصل أن يمتد التنوير لمواجهة كل الأفكار الظلامية في كل دين!

قال أحد المنتسبين إليهم في الرد عليّ، ولماذا نقحم أنفسنا نحن كمسلمين في شؤون الأديان الأخرى؟ إذن، إذا أنتم إصلاحيون دينيون، كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني مثلا، فليتم وضع النقاط على الحروف، وتحديد معالم المهمة، ليكون من حقنا أن نسأل عن مدى تحقق الأهلية لذلك فيكم!

يلوذ مؤسسو “تكوين” بالصمت، ويحتمون به، حيث لا يمكنهم تبني ردود كل متطوع، فيأتي متطوع ليقول إن فكرة الأضحية تخالف العقيدة المسيحية، وهنا نكون قد وصلنا لبيت القصيد!

فلماذا هذا الإصرار على إثارة أزمة مع الذين يحرّمون تهنئة المسيحيين بأعيادهم، لاسيما عيد القيامة لأنه ضد عقيدتهم التي لا تقر قيامة السيد المسيح عليه السلام، مع اختلافنا مع هؤلاء، وهم يبالغون في النهي في كل مرة، فيعطون أهل التنوير الزائف المبرر لخلق مهمة لهم، وكأن الوحدة الوطنية يلزمها تطابق العقائد ووحدة الأديان؟!

إن سؤالاً يتكرر لدرجة الملل في قنوات الإثارة.. هل يرى الإسلام أن المسيحي سيدخل الجنة؟ ومع أنها أسئلة تنطُّع تستهدف إحراج طرف بعينه، فإن الواجب الإعلامي يلزم بوجود قس لسؤاله: هل سيدخل المسلم في الملكوت؟ بل هل سيدخل الملكوت المنتمون للمذاهب المسيحية الأخرى؟ لنصل إلى أن حقوق المواطنة لا تقوم بمن سيدخل الجنة ومن سيدخل النار، وبتماهي العقائد، وتلاشي الحدود الفاصلة بين الأديان!

وها هي العقوبات التي تم توقيعها على القس دوماديوس حبيب، تعري جماعات التنوير الزائف، التي لاذت بالصمت!!

فأين الرجال؟!

1 تعليق

  1. محمد السيد

    أحسنت أ. سليم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...