العالم الرقمي منجل الاحتلال للسيطرة والنفوذ والإبادة

بقلم: خالد صافي

| 10 أغسطس, 2024

بقلم: خالد صافي

| 10 أغسطس, 2024

العالم الرقمي منجل الاحتلال للسيطرة والنفوذ والإبادة

القوة المطلقة للإبادة

تخيل أن دولاً عظمى تمدّك بعدد كبير من طائرات الاستطلاع لتجوب سماء عدوك ليل نهار، تلتقط كل شيء بالصوت والصورة، وتخزن ذلك كله على مساحات تخزينية غير محدودة وفّرتها لك، وتسجّل مليارات المحادثات الصوتية الصادرة والواردة في كل وسائل الاتصالات، حتى محادثات الناس في الشوارع، وتحولّها إلى نصوص مقروءة، وتربطها وتحللها في ثوان معدودة لتحدّد لك أماكن الأعداء وتحركاتهم بدقة فائقة، وتعطيك خمس دقائق كاملة لاتخاذ قرار بالقتل، وقبل ذلك تقدم لك تصريحًا مفتوحًا بالقتل، فقد تولّت الدول المتحضرة ذاتها تعطيل القانون الذي سيحاسبك على استهدافك هذا العدو، حتى لو كان طفلاً لا يشكل أي خطر عليك.. هل كنت ستستخدم تلك القوة المفرطة، وتفرض سيطرتك ونفوذك بالقتل والإبادة؟

لو أجبت بنعم، فأنت تستنسخ تجربة الاحتلال الإسرائيلي، الذي استغل أحدث التقنيات التي منحها إياه العالم المتطور ليمارس الإبادة الجماعية بحق المحاصرين في قطاع غزة، ويقتل أكثر من 50 ألف إنسان.

نقرة واحدة

أجاب بنيامين نتنياهو على السؤال ذاته بنعم حين قال: “بنقرة واحدة، يمكنك تركيع أمم على ركبها بسرعة كبيرة إذا أردت ذلك، كل العلوم التي تم تصديرها بعد الثورة الصناعية تم تطويرها من أجل توظيف تطبيقات وامتلاك قدرات للهيمنة والسيطرة عسكريًا واقتصاديًا، المستقبل ملك للقادرين على اغتنام هذا التغيير، نحن في القلب من هذا التغيير، يمكننا اغتنامه ونحن عازمون على اغتنامه، إنه يغيّرنا ويمنحنا قوة ونفوذًا لم نكن نمتلكهما من قبل أبدًا، والعالم الرقمي مجال حقيقي للسيطرة والنفوذ”.

وأوضح مصدر أمني في جيشه أن أنظمة الجيش الإسرائيلي كانت مثقلة للغاية في بداية الحرب، لدرجة أنهم فكروا في نقل نظام استخباراتي- كان بمثابة الأساس للعديد من الهجمات في غزة- إلى خوادم سحابية عامة، حيث كان هناك 30 ضعفًا في عدد المستخدمين، لذلك تعطل النظام. واستدرك بقوله: “ولكن بنقرة واحدة تضغط على زر، وتدفع ألف دولار آخر في ذلك الشهر، ليصبح لديك 10 خوادم.. هل بدأت الحرب؟ لا توجد مشكلة، تدفع مليون دولار ليصبح لديك ألف خادم إضافي، هذه هي قوة السحابة”.

أمازون وجوجل ومايكروسوفت شركاء

وأكدت العقيد (راشيلي ديمبينسكي)، قائدة وحدة مركز الحوسبة ونظم المعلومات في الجيش الإسرائيلي، علناً لأول مرة أن الجيش الإسرائيلي يستخدم خدمات التخزين السحابي Cloud Services والذكاء الاصطناعي AI التي تقدمها شركات التكنولوجيا المدنية العملاقة في هجومه المستمر على قطاع غزة، والشركات التي تقدم هذه الخدمة هي: أمازون ويب سيرفيسز AWS وجوجل كلاود Google Cloud ومايكروسوفت أزور Microsoft Azure، ووصفت تلك السحابة الداخلية بأنها “منصة أسلحة”، تتضمن تطبيقات لتحديد الأهداف للقصف، وبوابة لعرض لقطات حية من المسيّرات في سماء غزة، بالإضافة إلى أنظمة إطلاق النار والقيادة والتحكم.

لكن مع بداية الاجتياح البري للجيش الإسرائيلي لغزة في أواخر أكتوبر 2023، أصبحت الأنظمة العسكرية الداخلية مثقلة بسرعة، بسبب العدد الهائل من الجنود والعسكريين الذين تمت إضافتهم إلى المنصة كمستخدمين، ما تسبب في مشاكل فنية هددت بإبطاء الوظائف العسكرية الإسرائيلية.

قدرات بلا حدود

ولحل المشكلة تم تفعيل جميع الخوادم الاحتياطية المتاحة في مستودعات الجيش وإنشاء مركز بيانات آخر، لكن هذا لم يكن كافيًا، لذا قرروا أنهم بحاجة إلى “الخروج إلى العالم المدني”، وهنا كانت المفاجأة حيث سمحت شركات التكنولوجيا العملاقة للجيش بشراء خوادم تخزين ومعالجة غير محدودة بنقرة زر، دون الالتزام بتخزين الخوادم فعليًّا في مراكز الكمبيوتر التابعة للجيش، والميزة “الأكثر أهمية” التي قدمتها شركات السحابة، كانت قدراتها المتقدمة في مجال إدارة البيانات الضخمة Big Data والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي أوصل أنظمة الجيش إلى نقطة كانت بحاجة إليها، ومنحت الاحتلال فعالية تشغيلية ميدانية كبيرة جدًّا في قطاع غزة.

سمحت السعة الهائلة لنظام الحوسبة السحابية العامة من أمازون AWS للجيش بالحصول على “تخزين لا محدود” للاحتفاظ بمعلومات استخباراتية عن “كل إنسان” تقريبًا في غزة، كما يعمل النظام بشاشتين، واحدة متصلة بأنظمة الجيش الخاصة، والأخرى متصلة بـ (AWS). كانت هناك حاجة إلى قدرات تخزين وقوة معالجة أكثر شمولاً للاحتفاظ بمليارات الملفات الصوتية، ما أجبر الجيش على اللجوء إلى خدمات الحوسبة السحابية التي تقدمها شركات التكنولوجيا، والمثير أن الخدمات شملت تحويل محتوى تلك الملفات الصوتية إلى نصوص مترجمة قابلة للبحث والتحليل.

هذا الكم الهائل من المعلومات المخزنة في سحابة أمازون ساعد جيش الاحتلال في تأكيد ضربات الاغتيال الجوي في غزة، ليس فقط لرجال المقاومة بل للمدنيين الفلسطينيين أيضًا، ليؤكد تورط شركات التكنولوجيا الكبرى في حرب الاحتلال المستمرة، وهي الحرب التي أشارت إليها المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، على الأراضي المحتلة بشكل غير قانوني.

من نيمبوس إلى سيريوس

في عام 2021، وقّع الاحتلال عقدًا مشتركًا مع جوجل وأمازون في مشروع نيمبوس Nimbus، تحت عنوان نقل أنظمة المعلومات الخاصة بالوزارات الحكومية إلى خوادم السحابة، وتلقى الخدمات المتقدمة منها مقابل 1.2 مليار دولار.. كانت الصفقة مثيرة للجدل إلى حد كبير، حيث وقّع مئات العمال في كلتا الشركتين على رسالة مفتوحة في غضون أشهر تدعو إلى قطع العلاقات مع جيش الاحتلال، وتزايدت الاحتجاجات من قبل موظفي أمازون وجوجل منذ السابع من أكتوبر، تحت شعار “لا للتكنولوجيا من أجل الفصل العنصري”، حتى طردت جوجل 50 موظفًا لمشاركتهم في احتجاج في مكاتب الشركة في نيويورك.

أما مشروع سيريوس Project Sirius فهو أكثر حساسية بكثير من نيمبوس، إذ يهدف لإنشاء سحابة أمنية خاصة ومعزولة عن الشبكات العامة وغيرها، وهي مخصصة فقط لجيش الاحتلال ووزارة الدفاع، ومن المفترض أن تكون هذه السحابة الجديدة منفصلة عن الإنترنت ومبنية على البنية الأساسية لمقدمي السحابة الكبار، ما يسمح لجميع وكالات الأمن الإسرائيلية باستخدامها للأنظمة السرية، ولم يتم التوقيع على المشروع حتى الآن مع أي من شركات التكنولوجيا.

التقنية في خدمة القتلة

تسارعت عمليات الرقمنة في جيش الاحتلال بشكل كبير، وهذا الاعتماد على التقنيات المدنية في الحرب الحالية مكّن الاحتلال من قفزة مجنونة في فترة قصيرة من الزمن، والفضل يعود لتوافر الخدمات السحابية، حيث يتجول القادة في الميدان بهواتف ذكية مشفرة، ويرسلون رسائل في دردشة عملياتية تشبه واتساب لكنها غير مرتبطة بالشركة، ويحمّلون الملفات إلى محرك أقراص مشترك، ويستخدمون عددًا لا يحصى من التطبيقات الجديدة على السحابة الداخلية من بينها:

 – تطبيق Z-Tube وهو يشبه إلى حد كبير يوتيوب، إلا أنه يسمح للجنود بالوصول إلى لقطات حية لجميع أجهزة التصوير العسكرية في غزة، بما في ذلك المسيّرات.

– بينما يسمح تطبيق MapIt للجنود بتحديد الأهداف في الوقت الفعلي على خريطة تفاعلية، ويبدو أن كل منزل لديهم هدف.

– ويستخدم جنود الاحتلال تطبيق Hunter للإشارة إلى الأهداف في غزة، واكتشاف أنماط السلوك البشري باستخدام الذكاء الاصطناعي.

من المفترض أن تتم إدارة السحابة الداخلية على خوادم عسكرية غير متصلة بسحابات الشركات الخاصة، لكن يبدو أن هناك طرقًا آمنة يمكن لشركات السحابة المدنية من خلالها تقديم الخدمات للأنظمة العسكرية أيضًا.

منفعة متبادلة

عندما قرر الاحتلال الانتقال إلى السحابة لم يكن لأجل القدرات التخزينية الفائقة فقط، بل رغبة منه في الحصول على الخدمات الأخرى التي وصلت إليها الشركات العملاقة في مجال الذكاء الاصطناعي ووحدات معالجة الرسومات GPU، وتحويل الكلام إلى نصوص، وطالما أن هذه القدرات موجودة بالفعل فلن تحتاج وحدات الجيش إلى تطويرها، إذ يتعين عليها الانتظار لشهور، إن لم يكن سنوات، لبناء خدمات مشابهة.

أما بالنسبة للشركات الكبرى، فهي ترى أن وزارة الدفاع الإسرائيلية عميلٌ مهم واستراتيجي، وهذا ليس فقط بسبب الحجم المالي الكبير للمعاملات، بل لأن “إسرائيل” يُنظر إليها باعتبارها مؤثرة في تشكيل الرأي بين أجهزة الأمن في أنحاء العالم، وفي قيادة الاتجاهات التي تتبناها أجهزة أخرى.

قال العقيد آڤي دادون، المسؤول عن المشتريات العسكرية التي تقدر بأكثر من 2.7 مليار دولار سنويًّا: “ما يستخدمه الجيش الإسرائيلي كان وسيظل أحد أفضل نقاط بيع المنتجات والخدمات في العالم، بالنسبة لشركات الحوسبة السحابية نحن أقوى وسيلة للتسويق، نحن بمثابة مختبر، بالطبع يريدون العمل معنا”.

في السنوات الأخيرة، لم تصبح أمازون شريكًا للجيش الإسرائيلي فحسب، بل أصبحت أيضًا مزودًا للخدمات السحابية للعديد من وكالات الاستخبارات، حيث وقّعت AWS اتفاقية مع وكالات الاستخبارات البريطانية لتخزين المعلومات السرية وتسريع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وبالمثل، أعلنت الحكومة الأسترالية أنها ستستثمر 1.3 مليار دولار أمريكي لبناء سحابة للمواد الاستخباراتية السرية للغاية على خوادم أمازون، كما وقعت شركة التكنولوجيا العملاقة اتفاقية مع البنتاجون، إلى جانب ثلاث شركات كبيرة أخرى، لبناء سحابة عملاقة من شأنها أن تخدم وزارة الدفاع الأمريكية لجميع مستويات التصنيف.

مبادئ على ورق

تبنّت أمازون فكرة “بناء الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول” و”الحصول على البيانات واستخدامها وحمايتها بشكل مناسب” و”منع تصدير النظام الضار وإساءة الاستخدام”، وسبقتها مايكروسوفت إذ صرحت “نحن ملتزمون بضمان تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وبطرق تضمن ثقة الناس”، ومن قبلهما جوجل حين قالت إنها: “لن تصمم أو تنشر الذكاء الاصطناعي في التقنيات التي تسبب- أو من المحتمل أن تسبب- ضررًا عامًّا، [أو] التقنيات التي تجمع أو تستخدم المعلومات للمراقبة التي تنتهك المعايير المقبولة دوليًّا [أو] التقنيات التي يتعارض غرضها مع المبادئ المقبولة على نطاق واسع للقانون الدولي وحقوق الإنسان”.

منذ أمد بعيد، وشركات التكنولوجيا العملاقة تصدّع رؤوسنا بالمبادئ والمسؤولية التي تتحلى بها، هذه المبادئ المعلنة ليس لها تأثير حقيقي، لأن شركات الحوسبة السحابية تستخدمها كعلاقات عامة لإظهار مدى مسؤوليتها، بينما هم تجار حروب بقناع مزودي خدمة تقنية، فالمعلومات الاستخباراتية المحفوظة على خوادمهم خدمت جيش الاحتلال في قتل مئات الفلسطينيين، ومازالت تحصد أرواح الأبرياء بنقرة زر واحدة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...