سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 15 سبتمبر, 2024

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 15 سبتمبر, 2024

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من شمالي سوريا والعراق في تلك الفترة الحساسة. وفي ذلك الوقت كان على رأس السلطة السياسية الحمدانية الأمير سيف الدولة الحمداني، الذي اشتهر بشجاعته وبراعته العسكرية، وكان أحد أبرز القادة المسلمين العرب في مواجهة البيزنطيين.

حلب في تلك الفترة كانت بؤرة استراتيجية في عين القوى العظمى الغربية، وذات أهمية اقتصادية وعسكرية كبيرة، فهي تمثل بوابة لبلاد الشام ومركزًا مهمًّا للتجارة والتموين. هذه الأهمية جعلتها مطمعا وهدفا للإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة، واستعادة الأراضي التي خسرتها في السابق لصالح المسلمين في قرون الإسلام الأولى.

كانت الإمبراطورية البيزنطية قبل الهجوم على حلب تحت حكم الإمبراطور نقفور الثاني فوكاس، الذي كان قائدًا عسكريًّا محنكًا، والذي قاد حملة عسكرية واسعة النطاق باتجاه سوريا بهدف ضرب الدولة الحمدانية، والسيطرة على مدنها الرئيسة، وعلى رأسها حلب .

في تلك الفترة، كانت مدينة حلب تعاني من ضعف دفاعاتها العسكرية بسبب الخسائر المتكررة التي لحقت بالدولة الحمدانية في بعض صراعاتها الطويلة مع البيزنطيين. ويذكر بعض المؤرخين أسبابا داخلية لذلك الضعف، ومنها أن الرئيس الحلبي سيف الدولة الحمداني كان يعاني من مشاكل داخلية إدارية، وكذلك كان يعاني شخصياَ من مشاكل صحية أثرت على قدرته الشخصية في قيادة قواته بشكل فعال، حتى جاء عام 962م، الذي استطاعت فيه القوات البيزنطية بقيادة نقفور الثاني اختراق دفاعات حلب، واقتحام المدينة الجميلة، وتحويلها الى مستعمرة تحت وطأة الاحتلال الروماني.

يذكر العديد من مؤرخي العرب والرومان أنه بعد دخول البيزنطيين إلى حلب، قاموا بنهب المدينة السورية، وتدمير العديد من المباني والمرافق العامة بلا سبب، ولعل هذا ديدن القوى الغاشمة في غزواتها، أنها تتصرف بشكل يتنكر للمعايير التي تدعو إليها الحضارة الإنسانية حتى في ظل الحروب، وتمت عملية التدمير الشامل الذي لحق بالمدينة السورية البائسة، وذُكر في ملفات الجرائم الإنسانية ارتكاب العديد من المجازر بحق السوريين، من قتل وسفك للدماء البريئة.

ولعل هذا ما جعل السلطة الحمدانية تستعيد عقلها بعد هذه الصدمة، وقامت ببسالة بإشعال نار الثورة في نفوس السوريين من أجل رد العدوان البيزنطي، وخوض حرب استنزاف بكل ما تملكه من قدرات متآكلة لطرد القوى الاستعمارية البيزنطية، وبدعم من بعض القوى الإسلامية الأخرى، فقررت جحافل الرومان الانسحاب من حلب إلى أراضي الأناضول، ولكن بعد أن تركت بصمة قوية في الذاكرة التاريخية الشعبوية والسياسية للمدينة.

سقوط حلب كان بمثابة نقطة تحول في مسار الدولة الحمدانية، حيث كان السلوك عجباً عجاباً لبعض الأنظمة السياسية، التي عرفت ضرر الانقسامات الداخلية والصراعات على السلطة بين أفراد الأسرة الحاكمة والنخبة الفاعلة، والذي كان من المنطقي أن يستدعي ردة فعل إيجابية لتدارك الأمر لمصلحة الشعب الحلبي السوري، ولكن يبدو أن القيادة الحمدانية استمرت في عوامل تفككها، ولم تستوعب الدرس من سقوط حلب، وأصبح المواطن السوري بعيداً كل البعد عن ضمير الزمرة الحاكمة .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...