جيل الطوفان القادم وبيئاته التحررية..

بقلم: إبراهيم الدويري

| 26 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: إبراهيم الدويري

| 26 أغسطس, 2024

جيل الطوفان القادم وبيئاته التحررية..

من شأن الأحداث المزلزلة والتحولات الجسيمة أن تطبع أبناء زمانها بمياسمها الخاصة، وتترك على أخلاقهم وعقولهم بصماتها المميزة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومن شدة ارتباط الأجيال بالأحداث المحورية أنها تُضاف إليها؛ فعندنا أجيال النكبة والنكسة والانتفاضتين والربيع العربي.

 وهي أجيال صاغت تلك الأحداث والتحولات الكبيرة عقولها ووجدانها وأحلامها، وتأثرت بضغط اللحظات وإكراهات واقعها، واليوم يبدو في أفق عالمنا بروز جيل طوفان الأقصى، بما يحمله من عنفوان وتحدٍّ وبصيرة، وإصرار على إنشاء بيئات تحررية متمردة على واقع الهوان والذل.

جيل طوفان الأقصى القادم يتشكل على وقع الإبادة الجامعية، والأحداث البطولية والدامية في غزة؛ فلا يخفى على المراقب للساحتين الإسلامية والدولية أن الطوفان المبارك بدأ منذ انطلاقته بتشكيل بيئاته التحررية، وهي بيئات شاملة لأنماط التدين وحقيقة التوحيد، ولصياغة الوعي والإمكان السياسيين.

وأحسن ما في هذه البيئات المتشكلة أنها نسفت بقوة دفع الطوفان كل الأساطير، التي أنفقت أنظمة العمالة مليارات الدولارات والاجتماعات والمؤامرات على تشكيلها، وهي أساطير هدفها الأساسي إعاقة التحرر، وترسيخ التخلف وعبادة الحكام في المجتمعات الإسلامية.

من البيئات والظواهر التي أنشأها الطوفان بيئة تدين جديد، وظاهرة العودة إلى الله كما رصدها الأستاذ الباحث الصديق عبد القدوس الهاشمي في بحث ميداني شامل عن “العائدين إلى الله”، وهي بيئة تميزت بالروح العملية المتعالية على الجدل المذهبي والطائفي، الذي أهدر طاقات شباب الأمة ردحا من الزمن، واستفحل بين المسلمين برعاية عربية أمنية، تستأجر رجال أمن يلتحفون لحاف الدين، يضخمون للمسلمين جزئيات الاختلاف، ويبعدونهم عن حقيقة التوحيد المعظم للخالق سبحانه وأوامره.

وهذا الملمح نمّاه لدى العائدين إلى الله ما رأوه لدى أهل غزة من يقين بالله، وصدق مع الخالق، ورضى بأقداره وثبات على دينه، فكانت تلك المشاهد أبلغ في نفوس العائدين إلى الله من آلاف الساعات التي يمضيها دعاة الجدل العقدي حول الطوائف والتبديع والتفسيق، وهم دعاة غالبا ما يؤول أمر دعوتهم إلى تعظيم المخلوق الحاكم، وتطويع أوامر الخالق لأهواء سكان القصور.

كما تميز العائدون بالعودة إلى القرآن الكريم مباشرة، ما اختصر عليهم طريق التدين الطويل الذي كان يمر قبل طوفان الأقصى  بشيخ أو مذهب أو حركة، مما يحجب التائبين عن نور الوحي وحقيقة القرآن، بينما العودة المباشرة إلى الكتاب العظيم تنشئ أمة على غرار “جيل قرآني فريد” عند الشهيد سيد قطب.

ولكم كانت علاقة أهل غزة بالقرآن، هديا وحفظا وتدبرا وتثبيتا، ملهمة لكثير من التائبين العائدين من عذاب الأرض إلى رحمة السماء، وهو إلهام تهديه ثقافة الاستشهاد، وسينتج مقاومة وصحوة جهادية راشدة تستلهم معجزة غزة وبسالة شبابها ورجالها، وتستهدي بحياة الشهيد القائد إسماعيل هنية وثباته في وجه المحن والفقد والتهديد، وهو ثبات جَسَّد أثر القرآن وعظمة الإيمان في نفوس المؤمنين.

يرافق العودة الطوفانية إلى الله وعي سياسي راشد ينضجه أمران؛ أحدهما طبيعة العائدين، وهم شباب أغلبه دارس مثقف، وبعضهم متخصص في العلوم الاجتماعية والسياسية والتاريخية، والثاني حدة الانكشاف العربي والدولي، فليس من المبالغة القول إن كل طفل عربي الآن يدرك حقيقة من يحكم بلده، ويقيس موقفه من حاكمه بميزان الموقف من غزة دعما أو خذلانا أو تآمرا.

ويبدو من نوعية النقاشات المنتشرة بين الشباب أن وعيهم السياسي الراشد تدفعه تضحيات أهل غزة إلى توسيع خيارات إمكاناتهم السياسية، ورفع سقوفهم النضالية والتوقعية، وهي نقاشات تشمل حقيقة الموقف من أمريكا بصفتها راعية وحامية لإسرائيل، وللنظام الدولي المشلول، والغالب أن القناعة التي خرج بها القائد يحيى السنوار من سجنه عن النظام الدولي وحقيقته ستكون الأكثر شيوعا وانتشارا بعد بيان عواره وعجزه وتآمره.

يترسخ الوعي لدى جيل الطوفان على وقع مفردات أهمها إمكانية هزيمة إسرائيل والإثخان فيها، وهو أمر لم يكن تصوره ممكنا قبل طوفان الأقصى، ولعل مطلقي الطوفان أرادوا له أو أراد له القدر أن ينشئ هو بيئاته التحررية العابرة للأوهام والتخيلات، التي سيطرت على عقولنا جراء عقود الاستضعاف واستحكام الاختراقات الفكرية المسورة بالسقوف الواطئة، والله غالب على أمره.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...