الفلسطيني يدق الجدران: إبداع الغزيين رغم الإبادة

بقلم: خالد صافي

| 19 سبتمبر, 2024

بقلم: خالد صافي

| 19 سبتمبر, 2024

الفلسطيني يدق الجدران: إبداع الغزيين رغم الإبادة

وجه الإبادة المميت نبتت على جوانبه- رغمًا عنه- سنابل الإبداع ومعالم الحياة، وتجلّت قدرة الفلسطيني في التصدي لآلة الدمار، وتحدي الظروف القاسية التي فرضها الاحتلال بالحصار والحرمان وطول زمن الحرب، فما كان من أهل غزة إلا البحث عن الحيل والبدائل والاختراعات مع غياب الموارد الأساسية لتلبية احتياجاتهم اليومية، في ظل واقع متخم بالمآسي والصعاب.

وفي جانب مضيء متناهي الصغر، طوّر المحاصَرون في غزة تطبيقات تقنية لتسهيل الوصول إلى المعلومات، وأنشؤوا منصات تساعد في توفير فرص العمل، كما أطلقوا مبادرات بيئية تركز على إعادة تدوير المخلفات واستخدامها في بناء منازل مؤقتة. وحتى في مجال الفنون، برزت مواهب فلسطينية أبدعت في تحويل آثار الحرب إلى أعمال فنية تعكس صمود الشعب الفلسطيني، واستخدمت الأنقاض المتبقية من البيوت المدمرة لصنع منحوتات فنية، ورسم لوحات تعبر عن الألم والأمل معًا.

إعلان الإبادة

“نفرض حصارًا كاملاً على قطاع غزة، لا كهرباء، لا طعام ولا ماء ولا غاز.. كل شيء مغلق”.. كان هذا نص إعلان الإبادة بتوقيع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي اعتبر سكان غزة وحوشًا بشرية لا يحق لها العيش، وباشر هو وجنوده بقطع كل شرايين الحياة عن مليوني إنسان في قطاع غزة، ظنًا منهم أن الغزي عندما يُزجُّ به في الخزان سيركع حين يمزق العطش والجوع أمعاءه، ويفقد مصادر الطاقة ويعود إلى العصر الحجري!

استوصوا بالنساء خيرًا

النساء هنّ الأكثر إبداعًا وإرهاقًا في ظل غياب الأدوات الكهربائية؛ إذ أجبرتهنّ الأوضاع الكارثية على العودة إلى الطرق التقليدية في تنظيف أشباه البيوت والخيام، وتحضير وجبات الطعام من أقل الموارد المتاحة، وغسل الملابس يدويًا، والخَبز على فرن الطينة، والطبخ على النار، وتعبئة ونقل وتسخين المياه، وتخزين ما بقي من خضار، والحفاظ على النظافة الشخصية في غياب المطهرات والأدوات الصحية.

بيت في العاصفة

تخيلي بيتك سيدتي بين ليلة وضحاها يمسي بلا أدوات كهربائية، بلا غسالة ولا ثلاجة ولا مدفأة ولا مروحة ولا تكييف ولا مكواة ولا سخان ولا خزان ولا دورة مياه، ولا سرير ولا كنب ولا سجاد ولا غرفة نوم ولا مطبخ، ولا أواني أكل وشرب!. وأن بيت الزوجية الذي ستعيشين فيه من الآن وصاعدًا خيمة من قماش وإبريق ماء للشرب وجردل للاغتسال، إضافة لملابسك التي ترتدينها، وعليك الاهتمام بالأولاد وطعامهم، والمساعدة في سير عجلة الحياة إلى جانب زوجك وأهله وأقاربه، الذين قد يشاركونك الخيمة ذاتها وأغراضها!

مواقد بديلة

إذا صعُب عليك مجرد التخيل فقد عاشت النساء في غزة أصعب من هذا الواقع، لكنهنّ لجأن لابتكارات بديلة للتأقلم مع هذه الصعاب، منها المواقد التي تعمل بالحطب ونشارة الخشب، وهي مواقد مصنوعة من صفيح وطين، حيث يتم وضع خليط من النشارة والطين داخل صفيحة، وتكون لها فتحات تهوية تساعد على إشعال النشارة بسهولة، وبمجرد اشتعالها يمكن أن يستمر اللهب لأكثر من 24 ساعة، ما يوفر وسيلة فعالة للطهي والتدفئة، وبعد اعتمادهنّ طريقة صُنعها شاركْنَ طريقة عملها واستخداماتها على مواقع التواصل، بينما طوّر أحمد الفكرة بعد مشاهدته فيديو على يوتيوب، وبدأ بصناعة هذه المواقد وبيعها، ليوفر منها مصدر دخل له.

لم تكن كل البدائل بالعودة إلى الوراء، فقد اخترعت المهندسة إيناس من غزة جهازًا للطبخ يعمل بالطاقة الشمسية، وآخر لتحلية مياه البحر، ولو أنصف العالم غزة لسجل لها براءة اختراع في ظل الإبادة.

الحرف اليدوية تعود إلى الحياة

على مدار سنوات الحصار عانى سكان غزة من الانقطاع المتكرر للكهرباء، وتأقلم معظمهم مع جدول ثماني ساعات وصل في اليوم، لكن الاحتلال قطع التيار بشكل كامل في شهور الإبادة، قطْع توقف معه عمل العديد من الحِرف التي تعتمد على الكهرباء، إلا أن هذا لم يثن إبراهيم عن طرق جدران الخزان، وتحويل ماكينة الخياطة الكهربائية إلى يدوية باستخدام دراجات هوائية، حين ربط عجلة دراجة هوائية بذراع ماكينة الخياطة، يحركها ابنه يدويًا ويتولى هو مهمة خياطة الملابس!. بهذا الاختراع خاط الناس أسبالهم البالية، وأكياس البلاستيك لتحويلها إلى أغطية كبيرة، وصنعوا من القماش خيامًا للنازحين، كما حوّلوا المظلات التي تُسقط مساعدات لا قيمة لها إلى خيامٍ تسهم في إيواء المشردين.

الطاقة المجانية

ظن الاحتلال أنه المتحكم في طاقة هذا الكون فحجبها عن أهل غزة، لكنه لم يسمع عن عبد الله الذي ابتكر نظامًا يعتمد على الطاقة الشمسية لشحن الهواتف، حيث يشحن نظامه مجانًا نحو 70 هاتفًا يوميًّا في كشك صغير أعده لهذه الخدمة لمساعدة النازحين في المواصي غرب خان يونس.

نيوتن غزة

أما اليافع حسام، فقد تمكن من توليد الكهرباء باستخدام مروحة هوائية قديمة، صنع منها توربين رياح لإنارة المخيم الذي يعيش فيه في رفح، حتى أطلق عليه النازحون لقب “نيوتن غزة” بعدما بدّد عتمة مخيمهم، ومن وقتها وهو يسعى لتطوير فكرته بإضافة بطاريات لتخزين الطاقة لاستخدامها في الأوقات التي تقل فيها سرعة الرياح.

للنظافة عنوان

بعدما دمر الاحتلال مصنع أحمد، الذي كان ينتج أربعين نوعًا من مواد التنظيف، لجأ إلى أساليب تقليدية مثل استخدام العصا والدلاء الكبيرة لتصنيع المنظفات، معتمدًا على حلول بديلة بموارد محدودة للتغلب على النقص الحاد وارتفاع الأسعار، كما اخترع طرقًا بدائية لصناعة مواد التنظيف.. وكغيره من طارقي جدران الخزان، يبذل أحمد جهده لتلبية احتياجات سكان مدينته، ليحافظ على صحة الناس وسط ظروف الحرب الصعبة.

خيمة معدنية

طرقات داليا على الجدران كانت مختلفة، إذ اتجهت بابتكارها لتصنع شيئًا رمزيًا عندما جمعت حوالي ثلاثة آلاف علبة معدنية من علب المساعدات الغذائية، بمساعدة الأطفال والشباب في مخيم دير البلح، بعد أربعة أشهر من بدء الحرب، وخلال أسبوعين- وبمساعدة مهندس نازح- صممت رسمًا هندسيًا لخيمة فريدة من نوعها، وزيّنتها بلافتات باللغتين العربية والإنجليزية، لترسل بخيمتها المعدنية صورة المعاناة التي يعيشها النازحون في ظل الإبادة.

مدرسة في خيمة

لم تتوقف دروس تحفيظ القرآن في الخيام، كما سعت المعلمة جميلة وزملاؤها لتوفير التعليم للأطفال النازحين في خيمة بمدينة رفح، وإعطاء دروس في المناهج الفلسطينية، بما في ذلك اللغة العربية والقرآن الكريم، وانبرى بعدها المبادرون لتوفر بيئات تعليمية مؤقتة في أشباه البيوت والخيام بأقل الأدوات القرطاسية، على أمل تعليم الطلاب الدروس الأساسية، وناقش تامر رسالة الماجستير من خيمته، وتحولت بعض الخيام إلى مراكز عمل عن بُعد، تزود المستقلين بالإنترنت والكهرباء ليواصلوا أعمالهم الرقمية والتقنية.

أحلام منذ الصغر

ليتك ترى الحاج معتز وهو يحقق حلمه ببناء بيته كوخًا على شاطئ البحر من الرمل والطين وأكياس البلاستيك، وتسمع حديث المسن محمد عن طفولته التي تعلم فيها الزراعة على يدي والده، معتمدًا على أنظمة ري بديلة بتقنيات بسيطة ولكنها فعالة، وتكتشف سعادته حينما أكل كبيرًا من ثمار ما زرعه في بيته في أيام الحرب، لتعرف أننا شعب تزيدنا الأيام ثقة بالله ويقينًا بنصره.

الفلسطيني يدق الجدران

نحن الذين نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً، نرتقي سببًا في سماء الإبداع، ونمتطي صهوة الابتكار دليلاً.. نحن أيدٍ أبيدت على مذبح الحرية، لكنها ما كلّت من طرق جدران الخزان لعل العالم يسمع آلام جوارحنا!

هذه الابتكارات ليست مجرد وسائل للبقاء والتأقلم، بل هي تعبير عن روح المقاومة والقدرة على التحدي، قد تراها إبداعًا لكنها تنحت أرواح الناس وتنحل أجسادهم وتنهك أنفاسهم؛ فالحرب مهلكة والإبادة مستمرة، والخزان يغلي والمشاعر تنصهر.. ولا يعني سماعك طرقات الفلسطيني على الجدران أنها خالدة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...