حكاية بائع كتب عربي في إسطنبول (1)

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 21 سبتمبر, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 21 سبتمبر, 2024

حكاية بائع كتب عربي في إسطنبول (1)

لقاء مع مستعرب

عندما قابلت د. فرانك ميرمييه وتناقشت معه حول مدينة إسطنبول والحضور العربي فيها، وحدثني عن نيته نشر كتاب يضم دراسات لباحثين حول الحضور العربي في هذه المدينة، تحمست للمشاركة بفصل في الكتاب عن حكاية عملي في مكتبة عربية في حي الفاتح، أحد رموز الحضور العربي في المدينة؛ قلت لنفسي: لمَ لا أكتب عن المكتبة وعالمها وحكايات القراء في رحابها؟ وكتبتُ بعضًا من هذه الحكايات، ونُشرت في كتاب بالفرنسية عن الحضور العربي في إسطنبول.. لم أفهم من البحث الفرنسي إلا اسمي.

كان النقاش مع د. فرانك ميرمييه ممتعًا ومفيدًا، فهو مستعرب يعرف العربية جيدًا، وكانت مناسبات لقائه مع زوجته أستاذة الآثار د. نهى صادق فرصة لالتقاط الأنفاس في مدينة شاسعة مثل إسطنبول، كنا نجلس في زاوية من هذه المدينة الضخمة نحكي عن حياة العرب والكتب والثقافة، وتخللت ذلك مداخلات ثقافية عميقة من الكاتب محمد تركي الربيعو، وكنت أسعد عندما أسمع من د. فرانك ود. نهى عن تجاربهما في البلاد العربية، ومعارفهما من الشخصيات الثقافية المشهورة في أنحاء العالم العربي من اليمن إلى لبنان.

كتب فرانك دراسة مميزة عن حالة النشر في بيروت بعنوان “الكتاب والمدينة: بيروت والنشر العربي”، سعدت بقراءتها؛ فهي غنية بالمعلومات، وتميزت بالدقة، وتضم مقابلات شخصية بين فرانك والناشرين في بيروت، ودراسة لحالة هذه المدينة وتجربتها في نشر الكتب، وهي التي تميزت بسقف حريات عالٍ، حيث لا توجد رقابة من الدولة في لبنان على عمليات النشر.

قدم ميرمييه عدة دراسات عن المدن العربية مثل صنعاء وعدن، وكتب عن أسواق صنعاء في كتابه “شيخ الليل”، وهو شخص دمث ومتواضع.

أحاول في هذه السلسلة استنطاق تجربتي، وقصّ طرف من هذه الحكاية، وإبداء الملاحظات حولها؛ فالمكتبة العربية في إسطنبول بمثابة مختبر لدراسة كثير من الفِكَر والملاحظات الأنثروبولوجية، فقد قضيت فيها أربع سنوات.

كيف وصلت إلى دار السعادة؟

في البداية أشرك القارئ بقصة وصولي إلى العمل في المكتبة.. تخرجت في جامعة طنطا عام 2012 بتقدير مرتفع، فقد كنت من أوائل دفعتي في قسم التاريخ، ولم أجد عملًا في الجامعة، بحثت عن الفرص المتاحة، وسافرت إلى الدوحة وعملت باحثًا في مركز دراسات، وقضيت في الدوحة أربع سنوات أنهيت فيها الماجستير في مقارنة الأديان والاستشراق. بعد ذلك انتهى عقدي، وبحثت عن مكان أسافر إليه، وكان اختياري إسطنبول.

في عملي السابق في الدوحة كنت أقضي معظم الساعات أمام الحاسوب، أتابع التحضير لندوة، أو أجيب على إيميلات أبحاث المشاركين في مؤتمر، وأتابع إخراج ونشر الكتب التي تصدر عن مركز الدراسات، وكذلك عملت في سكرتارية جائزة الشيخ حمد للترجمة، وهي جائزة من قطر لتكريم المترجمين المميزين حول العالم.

في عملي السابق في الدوحة لم أكن أقابل أشخاصًا من الخارج إلا في الندوات والمؤتمرات، بقية العمل يكون في المكتب وبلا لقاء وتفاعل مع جمهور. في المكتبة كانت تجربة مختلفة، وقتك الأساسي هو توفير احتياجات القراء ومساعدتهم، سواء أكانت مساعدة للوصول إلى رف كتاب أو كانت ترشيح كتاب.. النقاش والحديث مع الزوار أصبح جزءًا من عملي الجديد.

إسطنبول: المدينة المرهقة الفاتنة

لطالما فكرت.. كيف ترى عين السائح المندهشة الحياةَ الروتينية للناس المقيمين؟ وكيف تصبح هذه المدينة لظروف وسياقات عديدة مستراح العرب والسياح، وجنتهم التي يبحثون فيها عن بعض السكينة والهدنة؟ والعجيب أن إسطنبول تعطيك هذا الوجه الهادئ الناعم الشفاف لها.

‏لكن خلف ورود حديقة جولهانة وأشواك شكاوى أهل الأحياء الفقيرة وصراعات المعيشة، في إقامتي في إسطنبول بتّ أفهم لماذا حكى عنها الشعراء بحزن، وكيف كانت هذه المدينة تحمل الدراما التي تظهر في قصص اليوم، إنك ترى الصراعات البشرية وتقلبات مصاير الناس، وكثيرًا من مظاهر الفقر والعوز والتعب والكفاح فيها.

‏وهي تحمل ذخيرة تاريخية، وحشدًا من الأحداث الكبرى.. ذات مرة كنت في منطقة السلطان أحمد، ورأيت منزل جمال باشا، وقفت أمام المنزل بهيبة!. هل هذا هو جمال المشهور بالسفاح لدى العرب، الذي قتل الناشطين العرب، وتسبب هذا القتل في أخدود دموي عميق كما يصفه جمال باروت؟ هل أنا أمام منزل رجل كان سببًا في الثورة العربية ضد الحكم العثماني؟

وفي حديقة يلدز أنتظر مرور السلطان عبد الحميد، وفي الشارع الذي يطل منه الباب العالي أشعر بسخرية التاريخ لتحوّل هذا المكان إلى مزار في شهر عسل للمحبين والعشاق.

 وراء زرقة البوسفور الفاتن ملح أجاج من تعب الناس وسعيهم وراء لقمة العيش، وخلف صرح التاريخ صراع على الحاضر، وقلق على مصاير المهاجرين هنا وهناك.

الوصول إلى المكتبة

وصلت إلى إسطنبول وبدأت التحضيرات لافتتاح المكتبة، كانت لحظة مرهقة ومهيبة في الوقت ذاته، مرهقة لأن ترتيب الرفوف ووضع العناوين من خلال تصنيفات منوعة شاقّ، والعمل بها استغرق ساعات كثيرة، فضلًا عن جهد بدني لم أتعوّده في وظيفتي السابقة، أما لحظات الفرحة فهي لحظات رؤية وجوه القراء العرب الإسطنبوليين لمكتبة عربية من طابقين، تحتوي على قرابة 20 ألف عنوان!. فرحة القراء كانت كبيرة بهذه العناوين التي كان من الصعب وصولها إلى مدينة مثل إسطنبول.

كانت زيارة المكتبة عند عرب إسطنبول نوعًا من أنواع الحنين إلى بلدانهم الأصلية، المصري يقف أمام دار الشروق، يرى أسماء المؤلفين الذين تربى على كتبهم، مثل أحمد خالد توفيق ومحمد حسنين هيكل ومحمد عمارة وطارق البشري وروايات نجيب محفوظ… والسوري يتأمل كتاب “سوريا الدولة المتوحشة” لميشيل سورا، وهو مندهش من صراحة الكتاب في وصف سوريا ونظام البعث… في هذه اللحظات عثر القراء على ضالتهم، حروف عربية في بلد يرطن بالتركية.

اتفق نواف القديمي- مدير المكتبة- مع فرقة، لتعزف الموسيقا العربية في أيام الافتتاح، كانت تجربة شائقة! رأيت شابًّا سوريًّا تنزل من عينه دمعة وهو يسمع أغنية فيروز “نسّم علينا الهوا” عند مقطع “خدني على بلادي”، ولم أتمالك نفسي في هذا الكرنفال من المشاعر ولحظات الحنين الجماعي، حين فرّت مني دمعة حنين وشوق إلى بلدي مصر.

هكذا كان لقاء العرب في إسطنبول بمكتبة عربية في حي الفاتح، يتأمل القراء الزوار الكتب، ويشعرون أنهم أقرب لقضايا بلدانهم وهمومهم في هذا المنفى، ولا عجب أن يحتلّ أدب السجون رفًّا طويلًا.

يقول جورج أورويل: “متجر الكتب أحد الأماكن القليلة التي بإمكانك المكوث فيها لوقت طويل دون أن تنفق مالًا”. ثم يستطرد أورويل -لأنه عمل بائعًا في مكتبة-: “بعد حينٍ يصبح المرء قادرًا على التعرف إلى هؤلاء الأشخاص من لمحة”، وهذه هي الخبرة التي تحدث لبائع الكتب في معرفة أنواع القراء.

تتحول المكتبة إلى همزة وصل لأبناء المنفى لمتابعة ما يصدر في العالم العربي، بعد فترة من تَعرُّف القراء على المكتبة تحوَّلَت المكتبة إلى مكان للزيارة لبعض السياح من الخليج بحثًا عن كتاب غير متوفر في بلدانهم، وأحصل على هامش هذه الزيارات على محادثات شائقة بين كويتيين وقطريين وسعوديين، مادتها الأساسية حديث الكتب والأفكار، وأحوال البلاد العربية السياسية والثقافية.

خطر على بالي في أثناء الكتابة كيف ساهم عملي في المكتبة في تغيير نظرتي في كثير من القضايا؛ كنت في عملي السابق في مركز أبحاث بالدوحة أرى مراحل العمل على الكتب المترجمة منذ البداية، حيث نتواصل مع المترجمين، ثم أتابع عمليات تنسيق الكتاب وتَسلُّم الكتاب بعد التحرير، وبعدها ينتهي عملي مع إرسال النسخة النهائية من الكتاب مع الغلاف إلى دار النشر في بيروت. كنت أعيش مراحل ولادة كتاب، وينتهي عملي بوصول نسخة ورقية من الكتاب من بيروت، ونحتفل بها في المكتب، لم أكن أرى القارئ الذي ينتظر هذا الكتاب أو أتعامل معه.. على النقيض من ذلك عاينت في عملي في المكتبة بقية القصة، وهي تلقِّي القراء للكتب والتفاعل معها، في دولة غير عربية وفي مدينة يعيش فيها ملايين العرب.

عملي هو البحث عن عناوين الكتب

استمر عملي في طلب العناوين من البلدان العربية، ومتابعة أي إصدار جديد يصدر عن دار نشر عربية، وهذا فتح لديّ الوعي بقضايا النشر، ومشكلات الكتاب العربي، ومسائل حقوق الترجمة، وتسعيرة الكتاب العربي، والمقارنة بين حالة الكتاب العربي وسوق النشر التركية وأسعار الكتاب التركي.

لقد فتحت المكتبة أفق تفكيري في صناعة النشر، والبحث عن قصص الناشرين والممولين، والمشكلات التي تواجهها هذه الصناعة.. مع الوقت أصبحت “كتبيًّا” مهتمًّا بأخبار النشر مثل اهتمامي بأبحاثي وكتاباتي، هنا اعتبرت المكتبة فرصة للتفكير في قضايا مثل الكتب الأكثر مبيعًا، وصعود وهبوط بعض دور النشر، وأسباب اختفائها من السوق.

لا يمكن إغفال دور التسويق الإلكتروني للكتب في ظل وسائل التواصل الاجتماعي.. لدينا نكتة في المكتبة عندما يسأل عديد من القراء عن العنوان ذاته في يوم واحد، نبدأ بسؤال أنفسنا: مَن كتب عن هذا الكتاب على إنستاغرام أو فيسبوك؟! فالهواتف بمثابة متاجر لعرض أغلفة الكتب.

وتُعتبر واجهة المكتبة رأسمال صاحب المكتبة، فهناك فرصة لرؤية أغلفة الكتب والتفكير في شرائها، وقد تحولت واجهة المكتبة الكلاسيكية إلى وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وإنستاغرام)، ولا نتخيل أن يستمر العمل في المكتبة بلا دعاية على هذه الوسائل، وعمل المنشورات لجذب أنواع القراء المختلفين إلى المكتبة.

مع تفكيري في تجربة عملي في المكتبة والتأمل فيها، انتبهت إلى أنني بقدومي إلى هذه المدينة ارتديت ثوبًا جديدًا، ثوب فتى المكتبة المحب للكتب، والذي يعرف ذائقة القراء، ويسرع لتلبية ما يناسبهم ردًا على أسئلتهم، خصوصًا مع وجود زبون آخر للكتاب، هو القارئ العربي المستقر، صحفيًّا كان أم باحثًا، وأصبحت أعرف مواضيع اهتماماته، فلست بحاجة إلى أن يمدني بكل العناوين التي يحتاج إليها، بحاسَّة المثقف أستطيع أن أرشح له بعض العناوين التي وصلت إلى المكتبة.

هكذا أصبح هاتفي يضمّ عديدًا من المؤلفين الذين كنت أقرأ لهم من قبل، أصبحت الشخص الذي يوفر لهم العناوين التي يودون الحصول عليها من بيروت أو القاهرة، أو أنبههم لتوفر كتاب جديد في حقلهم البحثي، وأصبح جزءًا من مهمتي تَعرُّف جديد إصدارات الكتب في البلدان العربية لطلبه للمكتبة.

هكذا أصبحت أواجه نوعين من القراء العرب: الأول هو الذي يقتني الكتاب كنوع من التسلية من متاعب المدينة المزدحمة، ويريد رواية أو كتابًا خفيفًا، والثاني هو القارئ المثقف المتخصص المهتمّ بجديد الإصدارات والكتب.

وأتذكّر زميلي في المكتبة الذي كان يسجّل طلبات الزبائن بأسماء الكتب التي طلبوها، لدرجة أن هاتف المكتبة رنّ مرة باسم السلطان عبد الحميد الثاني، ولم أستطع الرد على مولانا السلطان!. المشكلة لو طلب زبون كتاب “كفاحي” لهتلر، ويأتي الزبون إليّ وفي عينه لمعة شر وضحكة خبيثة، ويقول لي: وما سعر رواية “مقتل بائع الكتب”؟. هذا عنوان حقيقي فعلًا.. وهذا السؤال طبعًا بعد أن أُسمِعَه أسعار الكتب المرتفعة!

نكمل أحاديث المكتبة وحكايات القراء وقصص إسطنبول في المقالة القادمة..

1 تعليق

  1. عادل

    مقال جميل ننتظر المزيد

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...