جيش التتار لن يغزو غزة وحدها
بقلم: خالد صافي
| 31 أغسطس, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: خالد صافي
| 31 أغسطس, 2024
جيش التتار لن يغزو غزة وحدها
لو قُدّر لابن الأثير الجزري العيش في عصرنا، وإضافة مجلد جديد لكتابه “الكامل في التاريخ”، ليتحدث عن جرائم الاحتلال في غزة بعد حديثه عن حروب التتار، لما شعر القارئ بالفرق في المنهجية والأسلوب والطريقة.
فقد كانت حروب التتار تتسم بتخريب غير طبيعي، وكانوا كلما دخلوا مدينة دمروها، وقتلوا سكانها، وقصفوا المساجد فيها، ودمروا المستشفيات والمدارس والجامعات، واستخدموا الأسلحة المحرمة والذكية والغبية، وهدموا البيوت بالجرافات، وقصفوا المنشآت بالمتفجرات، وقتلوا الناس في الشوارع، وداسوا الأبرياء بالدبابات، كانوا لا يفرِّقون بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين مدني ومقاوم.
هم نوع من البشر يرفضون قبول الآخر، ويعتقدون أنهم العرق الأسمى الأحق بالبقاء والسيادة، وأنهم شعب مختار، والأهم من ذلك كله أنهم كانوا يبعثون برسائل التخويف للناس عبر رسلهم وسفرائهم، أو من خلال منشورات ورقية تسقطها الطائرات على المواطنين، أو تغريدات يكتبها الناطقون باسم الجيش على حساباتهم على مواقع التواصل، بغية بث الرعب في القلوب باعتبار أنه أقوى أسلحة المعركة.
جيوش خانعة وشعوب مدجّنة
يروي ابن الأثير في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة للهجرة بعض الصور، التي استمع إليها من الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية، فيقول: “كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس، فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد من المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع”، وقال أيضًا: “بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريُّ فأحضر سيفًا وقتله به”.
ويذكر التاريخ أن السلطان التتري أكمل زحفه لاجتياح البلاد الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، وعلى مدار خمس سنوات لم تخرج عليه ثورة مسلمة، ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم، مع أن جيوش المسلمين كانت تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها!
ما الذي أوصل المسلمين إلى تلك الدرجة من الخنوع؟ وكيف استثمر العدو هذا الاستسلام لغزو المزيد من البلاد الإسلامية وإخضاعها؟
خيالك ألد أعدائك
من أبرز ما ساعد التتار في غزواتهم نظامهم البريدي المبتكر آنذاك، حيث أنشؤوا خدمة بريد سريعة سمّوها “يام”، واعتمدت الخدمة على مجموعة محطات متسلسلة وموزعة بشكل جيد على كل أراضي الإمبراطورية، وكان هذا النظام يُستخدم لنقل البضائع والمعلومات بسرعة، وذلك بتبديل الأحصنة والرسل بعد قطع مسافات معينة.
وضمن هذه المعلومات كانت تُروى قصص المجازر والانتهاكات التي يقترفها الجيش الغازي ضد المدنيين والسكان الأصليين، وكل من يفكر في المقاومة والوقوف أمام جيش الاحتلال، الذي لا يتورع عن قتل الأطفال والنساء والكبار، ويترك مساحة لخيال المستمع ليضيف عليها الفظائع كما يتوقعها هو، وتتدحرج الروايات حتى تصل مرعبة للعامة؛ كي تعطّل تفكيرهم وتسلب إرادتهم وتشل أركانهم، وكان هذا أحد أقوى أسلحة التتار لغزو البلاد، فتمددت دولة التتار في غضون سنة واحدة، وملكوا الأرض أسرع من الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا في نحو عشر سنين.
أسلحة تتار العصر
أما تتار العصر فقد ساعدهم الإعلام الرقمي بشكل كبير في إخضاع العالم، إذ اعتمدت الوحدة 8200 الإسرائيلية على اللجان الإلكترونية، التي تعمل على تسريبٍ دوري لصورٍ مفزعة وأفعال شنيعة، يرتكبها جنود الاحتلال بحق المواطنين والأسرى خلال معاركهم في حرب الإبادة في غزة؛ بهدف بث الرعب في قلوب الدول المحيطة حينما ترى أن ما يجري في غزة هو نموذج رادع لكل من يتجرأ على الوقوف في وجه آلة الدمار التترية.
فقد قتل جيش الاحتلال ما لا يقل عن أربعين ألف فلسطيني في غزة، أي نحو اثنين في المائة من سكان القطاع، كما أحدث دمارًا شاملاً، فدمر الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والجامعات بشكل منهجي، ومازال المسلم في دول الجوار يضع رأسه على التراب بانتظار الجندي التتري، ليجلب سلاحه ويقتله بعدما يفرغ من قتل الأبرياء في غزة.
نزع الإنسانية
كما استخدم التتار منصات مواقع التواصل الاجتماعي لنزع الإنسانية عن المسلمين في غزة، وقد وصلت إلى درجة غير مسبوقة، حيث كتبت البروفيسور يولي تامير، وزيرة التعليم الإسرائيلية السابقة، في صحيفة هآرتس: “كل حرب تنطوي على مستوى معين من نزع الصفة الإنسانية عن العدو، ولكن يبدو أن نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في الحرب الحالية في غزة يقترب من المطلق”، بينما تبجح وزير المالية الإسرائيلي ونائب وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، بقوله: “لن يسمح لنا العالم بالتسبب في وفاة مليوني مدني جوعًا، حتى لو كان ذلك مبرَّرًا وأخلاقيًا كي نستعيد رهائننا”.
وكان من نتيجة ذلك أن وقفت بقية الشعوب المسلمة موقف المتفرج، وعلى مدار شهور الإبادة لم تخرج على الاحتلال ثورة مسلمة، ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم، مع أن جيوش المسلمين تملأ دول الجوار!
محطات لقياس رد الفعل
في السابع عشر من أكتوبر اختبر الاحتلال رد الفعل على جريمة مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني، التي راح ضحيتها أكثر من خمسمائة فلسطيني ما بين مرضى وأطباء ونازحين، ونجح في إثارة الجدل بين القنوات الإعلامية حول من الذي أطلق الصاروخ، بعيدًا عن الضحايا، رغم علم المتحاورين أنه لا توجد أسلحة تدميرية بهذه القوة إلا عند دولة الاحتلال.
وعندما مرت عاصفة (التريند) بسلام، كرّر الاحتلال استهداف بقية المستشفيات بلا أي شجب يُذكر، وزادت مجازره إجرامًا وصلفًا، حتى وصل إلى فجر العاشر من أغسطس، حين استهدفت طائراتُه المصلّين في مسجد التابعين في منطقة الدرج والتفاح، الذي كان يضم نازحين من مدينة غزة.
ورغم بشاعة المجزرة فإن الاحتلال- كعادته- استخدم المنصات لإشغال الناس في جدل حول استخدام المقاومة المكانَ للاختباء من عدمه، ثم انبرى هو ولجانه لنشر صور صادمة تظهر أكوامًا من اللحم المقطع في أكياس بلاستيكية على وسائل الإعلام، كما سرّب سابقًا مقاطع الاعتداء الجنسي على الأسرى في سجونه، كما سرد قصص التعامل اللاإنساني مع المحتجزين في سجن (سدي تيمان) سيئ السمعة.
عبْر هذا الإجرام المركب من الفعل الإجرامي الشنيع، وبثِّ صوره عبر منصات مواقع التواصل، يسعى الاحتلال لإضعاف النفوس في دول الجوار وإرهابها، وتعميم صورته كمجرم حرب لا يأبه بالقوانين، وقاتل سفاح يذبح كل من يعاديه، وموتور لا يُنصح بالوقوف أمام غضبه وانفعاله، لكي ينجح في اجتياح تلك البلاد مستقبلاً بسهولة بعدما يفرغ من خصمه في غزة.
وفي النزوح عِبرة
بعدما حصل الاحتلال على رخصة القتل بلا إدانة عالميًا، توجّه لفرض معادلات الهيمنة للضغط على المقاومة في غزة.
في يوليو، أمر الاحتلال أهالي خان يونس بالإخلاء عن طريق تغريدة للناطق باسم جيش الاحتلال، ولم يصدق سرعة الاستجابة وخروج أكثر من مئتي ألف إنسان من أشباه البيوت، والنوم في الشوارع بانتظار أوامر أخرى، الفعل الذي اعتبره الاحتلال نجاحًا باهرًا لخطته في تحريك الناس، فاعتبرها نقطة تفوق ومصدر قوة، يستخدمها في كل مرة يريد أن يعربد أو أن يرسل رسائل تحكم في الميدان.
ولكنه سرعان ما فقد تلك الورقة، عندما جرّب حظه مرة أخرى مع نفس السكان في خان يونس بعد أسبوعين، إذ فوجئ بعدم تحرك الناس كالمرات السابقة، بعدما فهموا اللعبة وأعلنوا أنهم يفضلون البقاء في بيوتهم والموت في خيامهم على مقاساة أهوال النزوح والإخلاء.
خصمه التالي
في القرن الثاني عشر الميلادي، نتيجة غياب الفهم الصحيح للإسلام، وعدم وضوح الرؤية عند الناس؛ دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة، وانبروا في لوم المقاومين والتبرير للاحتلال بعد كل مجزرة وجريمة، ودعموا الاحتلال على منصاتهم، وغردوا بلسان عدوهم، ما سهَّل مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع، فاحتلوا البلاد، ونهبوا الثروات، ودمّروا كل شيء.. بسلاح الرعب تارة، وتفرّق أعدائهم المسلمين تارة أخرى، ولم تقف أطماعهم عند أسوار غزة وحدها.
استشاري إعلام وتسويق رقمي
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
المقاربة والمقارنة قوية بارك الله في قلمك