ويسألونك عن انتصار غزة والخندق

بقلم: خالد صافي

| 28 أكتوبر, 2024

بقلم: خالد صافي

| 28 أكتوبر, 2024

ويسألونك عن انتصار غزة والخندق

يسعى الاحتلال لإبادة أهل غزة، ويخنقهم بالحصار، ويتكالب عليهم مع أعوان الباطل، وتعج الأجهزة المحمولة بصور أشلاء أطفالهم الممزقة وبيوتهم المدمرة. وفي مشهد سوداوي وواقع مزرٍ، تبدو غزة كأنها على فوهة هاوية ينهشها الظلم، ينظر الناس إلى المستضعفين ويتساءلون: أين النصر؟ لماذا لا ينتصر المسلمون في زماننا، ونحن أمة التوحيد، نتبع هدي محمد ﷺ؟ كيف يمكن لأهل الباطل أن يتغلبوا على أهل الحق؟

يخطئ البعض حين يظن أن النصر هو تحقيق الرفاهية والعيش في أمان دنيوي، وزوال كل العوائق والآلام، لأن هذه الرؤية تعبّر عن مفهوم ضيق لمعنى النصر؛ فالنصر في جوهره، أعمق من ذلك بكثير، إنه انتصار الإرادة على الخوف، واستعلاء الروح فوق الألم، وثبات القلوب في أوقات الشدة.

الأحزاب ضد غزة

في يوم الخندق، عندما أحاط الأحزاب بالمدينة، كما أطبق الاحتلال مع حلفائه الخناق على غزة، وضاقت الأرض بالمسلمين، وبلغت القلوب الحناجر، كانت تلك اللحظات تتطلب أكثر من شجاعة السيف؛ كانت تتطلب يقين القلب، وعن ذلك الموقف قال تعالى: {وتظنُّون باللَّه الظُّنونا}.. كثيرون تملّكهم اليأس واهتزت قلوبهم، خصوصًا مع وجود المطبعين والمرجفين في المدينة، واعتمادهم على نشر الإشاعات وزعزعة الجبهة الداخلية، لكن من ثبتوا على العهد، ومن كانت نفوسهم خالصة لله، رأوا في الحصار امتحانًا لإيمانهم، ومرحلة نحو نصرٍ أبعد.

ونصر أهل غزة لا يُقاس بميزان القوة الظاهرية، إنما بما ثبت في قلوبهم من الإيمان، وبما أودع الله في نفوسهم من الصبر والعزيمة، واليقين بأن الطوفان هو بداية الطريق للتحرير.

حقيقة النصر

قد يكون النصر في أعيننا راية تُرفع، وأعداءً يُهزمون، وقلاعًا تُفتح، وجنودًا يُقتلون، ولعل بعضنا يرى النصر حصادَ ما تُزيّن به الحياة من متاع، وأمانًا يسود، وعدالةً تعم، وهذه كلها قد تكون صورًا حقيقية للنصر، غير أن النصر إذا ما تجلّى لنا في مقام الحق، هو أعظم وأجلّ من ذلك.

إذا تأملنا النصر بحقٍّ، وجدناه بعيدًا كل البعد عن مظاهر الدنيا وزينتها، عن المغانم التي تُحصى، والمكاسب التي تُعدّ، وجدناه أقرب ما يكون إلى كمال النفس، وسموّ الروح، وتحررها من قيود الزمان والمكان، وهذا المفهوم هو ما يُحاك في نفوس أهل غزة، تلك الأرض المباركة التي رُبطت بالقداسة، أرضٌ كتب الله لها أن تكون موطن الصابرين، وميدان المرابطين والمجاهدين، وأن تظل شاهدة على نصر لا يُرى بالعين، ولكنه يُعاش بالقلب والوجدان، كأن يُسلم أحدهم في أقصى الأرض تأثرًا بمشهد صادم وصله من معارك غزة.

الأصل في النصر

إن من يقرأ القرآن يجد أن النصر لا يُذكر بالشكل الذي نتوقعه، فقد ذكر الله النصر فيه في أكثر من مائة وخمسين موضعًا.. الانتصار الدنيوي في تلك المواضع هو انتصار للقضية وللإسلام وللدين.

أما عن المسلم فنصره حين يفوز بالآخرة؛ فحين قتل الملك الظالم غلام أصحاب الأخدود بسهم من كنانته قائلاً: “باسم الله رب الغلام”، وحين أحرق الاحتلال شعبان الدلو في خيمته، الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره، حافظ القرآن الذي استقر به المقام في خيمة للنازحين في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، كان لكل منهما حياة تنتظره، وربما كان كل منهما سيتزوج وينجب، وتكون له أسرة وأحفاد.. في مقاييسنا الدنيوية، هما خسرا حياتيهما، ولكنهما عند الله {لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} [البروج: 11]!. بعد موت الغلام قال الناس: آمنا برب الغلام، وبعد موت شعبان انتفض الإعلام الغربي ناقمًا على الاحتلال وجنوده.

لذا، ليس من الحكمة أن يكون همّك السؤال عن موعد النصر، بل الأصل أن تسأل نفسك: هل ساهمت في هذا الانتصار، وأديت ما عليك من واجب؟ هل كنت جزءًا منه أم تخلّفت عنه؟

غادر كلٌّ من الغلام وشعبان دنيا الناس بعدما كانا إلى جانب الحق في المعادلة، ولم يسألا عن موعد النصر بل كانا وقوده، فالنصر يبدأ من أدائنا لمسؤولياتنا نحو الله والآخرين، حين نقف على الثغور المعنوية التي كلفنا الله بها في حياتنا، أما منتهاه فعلمه عند ربي، وربما يمنّ الله علينا بأن نرى بعضًا من صور النصر في أعمارنا القصيرة، أو قد يكرمنا بإشارات تدلل على علاماته، منها أن أعداد الضحايا والمباني المهدمة ليست من معايير النصر والهزيمة.

من الظلمات إلى النور

عندما خرج النبي ﷺ من مكة، وهي أحبُّ بلاد الله إلى قلبه، ترك وراءه أرضًا أحبها، وودّع بيوتها وأهلها كارهًا لذلك، لكنه خرج بمفهوم أوسع للنصر؛ خرج لنصر الدين ونشر الرسالة، ولأنها لحظة تلبية أمر الله، فقد سمّاها الله نصرًا، فقال تعالى: {إلَّا تنصروه فقد نصره اللَّه إذ أخرجه الَّذين كفروا} [التوبة: 40]، وإن كان مقياسنا في الدنيا لا يرى في الخروج والنزوح إلا هزيمة، ويجد في الإخلاء من شمال غزة إلى جنوبها ومن جنوبها إلى المناطق الآمنة إذلالًا وإهانة، فإن المفهوم الرباني يوضح لنا أن الفقد والعذاب والألم بذاته نصر.

قد يكون مر عليك مشهد الأم الثكلى التي فقدت صغيرها أيوب، فقالت بصبر واستسلام: “يا رب المهم تكون راضي يا رب، أنا الحمد لله راضية”!. هذا هو النصر بعينه؛ نصر الروح على جزع النفس، وانتصار الرضا على لوعة الفقد، ففي مثل تلك اللحظات، تتبدى في غزة صورة للنصر لا تشبه أي نصر، صورة لا يمكن أن تُفهم إلا بنظرة المؤمن الذي يرى العالم بعين الآخرة، ويعرف أن النصر الأعظم هو حين يسلّم قلبه لله، ويثق بحكمته ويقبل قضاءه.

ومع الصبر والرباط نصر

نحن هنا لنموت على أرضنا، أو لننتصر عليها، ليس النصر في غزة أن تُزال عنها كل محنة، ولا أن يُرفع عنها أذى الاحتلال والدمار، بل النصر أن يبقى أهلها ثابتين على مبادئهم، يقاومون بأساليب لا يفهمها إلا من ذاق طعم التضحية في سبيل الله..

منذ أكثر من عام، يعيش أهل غزة تحت حرب إبادة ممنهجة، حصار وتجويع وتشريد، ومع ذلك يقفون صامدين، متمسكين بأرضهم ودينهم، ولقد رأينا صورًا من النصر تجلّت في كل بيت من بيوت غزة، منها الرجل الذي يعمل ليكسب قوت يومه، رغم أنه يعرف أن لحظة بينه وبين قذيفة موجّهة قد تودي بحياته، والأم التي تخرج من تحت الركام تبحث عن صغيرها بيدين متعبتين رغم جراحها، والطفل الذي يصحو على دوي القذائف ويبتسم رغم الدمار، والشيخ الذي يرى بيته يُهدم ثم يشمّر ليعيد بناء ما دمره الاحتلال، والقائد الذي يلقي عصاه على مسيّرة لجنود الاحتلال بعدما نفدت ذخيرته وخارت قواه؛ هؤلاء كلهم منتصرون..

أن يبقى الفلسطيني- رغم كل محاولات التهجير- متمسكًا بأرضه، هذا انتصار؛ أن يبحث الآباء عن مبادرات عبر الإنترنت لإدماج أبنائهم في التعليم رغم ندرة الموارد، هذا انتصار.. النصر عند أهل غزة ليس زيف الدنيا، ولا بهرج الحياة، بل هو ثبات الروح، وصدق النية، والإيمان بأن الحق هو الذي يُبقيهم على الأرض ولو اجتمع عليهم كل جبار عنيد.

انقلاب التصورات

في حرب غزة، ظهر انتصار من نوع آخر، إذ تزعزع الرأي العام العالمي، وتبددت الصورة التي طالما سعى الاحتلال لرسمها عن نفسه كدولة “متحضرة”.. تحوّلت أنظار العالم إلى حقيقة الظلم الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، وبدأت دول غربية ترفع أصواتها للتنديد بتلك الجرائم، ولم يعد الاحتلال رمزًا للديمقراطية والابتكار كما كان يروّج له، بل أصبح في نظر كثيرين نظام فصل عنصري يمارس الإبادة والتطهير العرقي، ويقترف أبشع الجرائم على الهواء، ويستخدم القوة المفرطة وكل أنواع الأسلحة بذريعة “الحق في الدفاع عن النفس”، ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن عورة الأنظمة الداعمة للاحتلال في مزاعمه.

وبفضل صمود أهل غزة الأسطوري، الذي أصبح رغمًا عن الاحتلال انتصارًا، بات العالم يرى إسرائيل بوجهٍ جديد، وجه دموي يتعطش لدماء الأبرياء، ويرتكب المجازر بحق الإنسانية، أصبح انتصارًا لأن غزة حطّمت التصورات العالمية الكاذبة عن عدالة إسرائيل المزعومة.

ففي كل مرة يقف نائب في برلمان أوروبي ليوبخ ممثلي الاحتلال، ومع كل صورة لضحايا غزة تنتشر على مواقع التواصل، وفي كل مرة يحتشد ثلاثة أشخاص في مكان ما يتبادلون أطراف الحديث عن غزة وشعبها المحاصَر، ينتصر شعب غزة على الظلم، ويفتح نافذة جديدة للحق، ويثبت للعالم أن الحق لا يُسكت عنه، وأن صوت المظلوم لا يغيب، وأن العدالة- ولو تأخرت- فإنها ستقف في نهاية المطاف موقف الشاهد على الظلم.

انتصارات صغيرة

أليس عجيبًا أن تظل غزة، بمبانيها المدمرة وخيامها المهترئة وأطفالها الجوعى وشيوخها المنهكين، تمثل نبضًا يتجاوز فلسطين ليصل إلى العالم أجمع؟ أليس من المعجزات أن يقف العالم مشدوهًا أمام شعبٍ لا ينكسر، رغم تكالب القوى عليه، حتى باتت إسرائيل، بقواتها وتقنياتها وحلفائها، مهزومة أمام هذا الثبات الروحي الذي لا يستطيع أي سلاح أو عتاد أن يهزمه؟ إن خسائر جيش الاحتلال، وصراعاته الداخلية، وانهيار اقتصاده، وتذمر شعبه، وهجرته العكسية، هي انتصارات صغيرة تضاف إلى كفة الميزان، لتجعل من غزة رمزًا لصورةٍ أعمق وأبقى للنصر.

راية الصبر واليقين

وإن سألوك عن غزة فقل فيها أرواح سامية، كأنها أطياف من نور، تواجه موتًا مرسومًا من قِبَل عدُوٍّ جبار، يمعن في قتلها وتجويعها، وتخريب حياتها.. إنها حرب إبادة، يقتل فيها العدوُّ البشرَ والحجر والشجر، ويظن أن النصر في دماء يريقها، وأرض يحتلها، وأحلام يُرعبها.. ولكنَّ أهل غزة، برغم القتل والخراب والجوع، صامدون ثابتون، يرفعون راية الصبر واليقين، وكلما سقط شهيد كان في سقوطه جنديًّا آخر ينضم إلى قافلة النصر الحق.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...