السلام مجدداً كبوابة للحرب في اليمن

بقلم: نبيل البكيري

| 6 مارس, 2024

بقلم: نبيل البكيري

| 6 مارس, 2024

السلام مجدداً كبوابة للحرب في اليمن

في ظل تصاعد التوتر في اليمن، يثير تحليل واقعي مشكلة السلام. تصريحات المسؤولين السعوديين والحوثيين تبدو مبهجة، لكنها تتجاهل جذور الأزمة. فهل يمكن التوصل لسلام دون معالجة الأسباب الحقيقية للصراع؟
تفاصيل التحليل تسلط الضوء على التحديات وتحدد إمكانية نجاح أي مسعى للسلام في اليمن.

هل يمكن الاعتماد على السلام في اليمن؟

خرج مؤخراً وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بن عبد العزيز متحدثاً لقناة فرانس ٢٤، يوم الأربعاء ٢٠ فبراير الماضي، عن أن السلام بين جماعة الحوثي والشرعية اليمنية بات قريباً، وأن المملكة ستدعمه.. وهو التصريح الثاني – ربما- بعد تصريح ناطق الحوثيين محمد عبد السلام لصحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ ٩ فبراير الماضي، بقوله “إن لقاءنا بالأخوة السعوديين عالج عقبات خارطة الطريق”، ويقصد بذلك خارطة طريق السلام في اليمن.
مثل هذه التصريحات حظيت بقدر كبير من الاحتفاء المبالغ فيه من قبل الطرفين السعودي والحوثي، لكنها في الوقت نفسه تشير بوضوح لمدى هشاشة ووهم فكرة السلام في اليمن نفسها، لما ينطوي عليه هذا الاحتفاء الكبير من تفاؤل مشوب بالغموض الشديد، بل وسرابيَّة فكرة السلام ذاتها إذ تُقدَّم بطريقة فيها تجاوز لجذور وأسباب الصراع، بل وتسطيح للأزمة بشكل يُعقد المشهد أكثر مما هو مُعقد، ويؤزّمه أكثر من أن يقدم له الحلول.
فالمسألة هنا، أي الحديث عن السلام في اليمن، لا يجب أن تغفل جذور هذه الأزمة ومسبباتها، ولا يحتمل الأمرُ أكثر من ذلك قطعاً، وهو ما يستدعي من هذه الأطراف أن تكون أكثر واقعية، حتى لا تذوب في سياسة الأوهام اللذيذة التي مكانها في دورات التنمية البشرية، ثم تصطدم بعد ذلك بمقاربات الأزمات السياسية وتعقيداتها، بسبب انتهاجها هذه الطريقة التبسيطية التي نراها، والتي فشلت في جولات سلام عدة سابقة لأنها كانت تقفز فوق جذور المشكلة وأسبابها الحقيقية، وتذهب لمعالجة التداعيات فقط.
وبالتالي، فما لم تنطلق هذه النخب التي تتصدر مشهد أحاديث السلام من هذا الواقع المُراد حلحلة مشاكله، بعيداً عن دماثة ودبلوماسية الخطاب السياسي والإعلامي، فحتماً لن تكون تصريحاتها أكثر من مجرد أحاديث في الهواء، وستنعكس بقدر كبير من الإحباط في واقع ملغوم بكل الأزمات والمشكلات، التي لا تحتاج إلا لكلمة قاسية تصدر من هنا أو هناك، لتفجِّر حرباً أكثر ضراوة مما جرى من حروب سابقة.
ما أقوله هنا، أمر لا علاقة له بذهنية رواد ونجوم ما تُسمى بالتنمية البشرية ومدربي لغات البرمجة العصبية اللغوية، ما أقوله هنا هو قراءة دقيقة لواقع مثقل بالتعقيدات؛ وقبل هذا كله لا تزال طبول الحرب فيه ما تتوقف إلا لتقرع من جديد، وعدا عن ذلك فإنه لا يمكن مطلقاً تجاوز تاريخ الدماء ودينامياتها المتشكلة، في أي محاولة لمقاربة أزمات وتعقيدات الواقعَين المحلي والإقليمي معاً.
فعلى امتداد السنوات العشر الماضية من حرب اليمن، كنتُ ألاحظ أحياناً عزوفاً متعمداً لكثيرين وابتعاداً عن مقاربة جذور الأزمة والحرب، التي هي سبب رئيسي لا يمكن تجاوزه في أي مقاربة حقيقية لحلحلة الأزمة اليمنية، ما جعل كل المقاربات تبوء بالفشل الكبير في مختلف المحطات السابقة، لأنها تتجاهل الأسباب المولدة لهذه الأزمات والحروب، فضلاً عن إغفالها للواقع ودينامياته الحاكمة.
وبمعنى أكثر وضوحاً، لا تخرج كل أحاديث السلام التي يتم تصديرها للمشهد اليوم عن كونها هروباً وقفزاً في الهواء، بعد كل تلك المحطات والسنوات من الحروب، وإن استدامة تكرار التجارب والمسارات نفسها للوصول إلى نتائج مختلفة ليست سوى ضرب من البلاهة المفرطة، ما يُضاعف المشكلات ويراكمها أكثر من أن يقدم لها حلولاً عملية ناجعة.
فكل أحاديث السلام التي يتم تصديرها اليوم، لا تخرج عن مسار الهروب من واقع أكثر تعقيداً، يتوالد بالأزمات التي تنتجها ربما النظرات القاصرة، وربما انعدام الخيال السياسي لدى القائمين على الأمر في مقاربتهم لهذا الواقع، حيث يحاولون حلحلة مشاكله بالهروب لمشاكل أخرى، ظناً منهم أنها حلول جيدة! ولهذا كله ولأسباب أخرى عديدة لن يكتب لأي سلام في اليمن النجاح، وخاصة في هذه المرحلة بالذات، فكل مؤشرات السلام فيها عبارة عن وهم وسراب.
لا أجزم بذلك تشاؤماً، فلا وجود لمفردة التشاؤم في قاموسي، بل إني أنطلق من قراءة واعية لتعقيدات واقع لا يمكن تجاهله والقفز فوقه من قِبل أي باحث.. رؤيتي أنطلق فيها مما ذكرته ومن عناصر أخرى عدة، في مقدمتها حتماً الإصرار على تجاهل طبيعة جذور الأزمة والحرب في اليمن، وهذا التجاهل كان بمثابة الهروب الذي أفضى لإطالة أمد الحرب كل هذه السنوات، بينما كان المطلوب قليلا من الشجاعة وعدم تجاهل جذور المشكلة الرئيسية، لتجنب كل هذه السنوات من الحروب ونتائجها الكارثية اليوم.
ثاني أسباب عدم التفاؤل بنجاح أي مسعى أو جهد للسلام، هو ما قامت به دولتا التحالف العربي، المملكة والإمارات، من تفكيك للشرعية اليمنية وتفكيك مؤسساتها السيادية، واتخاذ جملة من السياسات صبت كلها في صالح الانقلاب الحوثي، وعملت على تقويته بضرب خصومه وتفكيكهم، ما أضر بالمعادلة السياسية اليمنية ككل، وساهم في نسف فكرة الدولة الوطنية اليمنية لصالح دويلة المليشيات.
ثالث أسباب عدم التفاؤل هذا، هو الإصرار السعودي على الظهور كطرف وسيط فيما ترى جماعة الحوثي غير ذلك، ما يعني تضارب أهداف الطرفين، وإن حاولا التخفيف من سطوة هذه الفكرة، حيث يصر الحوثي على أن المملكة طرف في الحرب وأن عمان وحدها الوسيط، وهو ما يعني أن الحوثي يدرك الحاجة السعودية للخروج من الأزمة اليمنية، وهذا يدفعه ليبتزّ منها المزيد من التنازلات التي ستكون حتماً مما يُخصم من رصيد الشرعية اليمنية، الطرف الأضعف هنا.
رابعاً، لسنا متفائلين بالسلام وتصريحاته، لحقيقة وحيدة ثابتة في كل هذه الأزمة، وهي الطبيعية الأيديولوجية والطائفية التي تقوم عليها جماعة الحوثي، كجماعة طائفية مذهبية ترتكز رؤيتها لنفسها على اعتبار أنها جماعة دينية، تتمحور حول مفهوم وفكرة الحق الإلهي في الحكم، وأن الحكم حق حصري في أسرة الحوثي باعتبارها امتدادا لذرية الحسن والحسين، ابني علي بن أبي طالب، وهذا ما يعرف بالإمامة في الزيدية، التي يقوم عليها هذا المذهب منذ التأسيس سنة ٢٨٣ هجرية على يد يحيى بن الحسين الرسي.
خامساً، يدرك الجميع اليوم أن جماعة الحوثي أصبحت جزءاً من محور كبير من المليشيات، التي تدين بالولاء المطلق لإيران ومشروعها في المنطقة، وأنه لا يمكن لأي من هذه المليشيات أن تخرج وتجتهد خارج المسار الإيراني المرسوم في تحديده لأدوار كل طرف منها. ومن هنا، فلا يمكن أن تترك إيران للحوثي حرية الذهاب في سلام مع المملكة العربية السعودية، وأحد أهم أهداف إيران الاستراتيجية هو ضرب وتفكيك المملكة والسيطرة على مكة والمدينة، وقبلهما على بحار النفط التي تنام فوقها جغرافيا المملكة الواسعة، كما هو حال إيران اليوم في سيطرتها على نفط العراق ومقدساته الشيعية.. وبالتالي، فأحاديث السلام ليست أكثر من أوهام لخصوم إيران، وتكتيك لها ولميلشياتها.
سادساً وختاماً، طبيعة الأزمة في اليمن أكثر تعقيداً في جذرها التاريخي، وليست وليدة لحظة الانقلاب الحوثي على الشرعية، فالصراع في اليمن طويل وممتد، وإن اتخذ في كل مرحلة شكلاً ما، لكنه يبقى صراعا بين إرادة وطنية جامعة وجماعة صغيرة تريد فرض رؤيتها الخاصة للدين والسياسة والاجتماع، وفقا لتصور طائفي ضيق لا يمكن أن يقبل به اليمنيون، وهم الذين أسقطوه سابقا، ولديهم اليوم الأسباب والدوافع نفسها وأكثر لإسقاطه اليوم وغداً، ما قد يُبقي الحرب خياراً وحيداً للسلام في اليمن.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...