عن تأثير “الدومينو” في انقلابات أفريقيا

بقلم: خليل العناني

| 31 أغسطس, 2023

بقلم: خليل العناني

| 31 أغسطس, 2023

عن تأثير “الدومينو” في انقلابات أفريقيا

تمثل عودة الانقلابات العسكرية في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة أمرا لافتا، ليس فقط لكونها تأتي في وقت من المفترض أن العالم يسير فيه باتجاه الديمقراطية، ولكن أيضا لوتيرتها المتزايدة وانتشارها الجغرافي، خاصة في منطقة غرب أفريقيا، وذلك فيما يشبه تأثير “الدومينو”. فقد انتقلت عدوى الانقلابات في تلك المنطقة من بلد إلى آخر بشكل سريع وغير متوقع، ربما لم يحدث منذ خمسين عاما على الأقل؛ حيث أنه خلال العامين الأخيرين فقط شهدت دول تشاد وغينيا ومالي وبوركينافاسو والسودان والنيجر، وأخيرا الجابون، انقلابات عسكرية أطاحت بالعديد من الحكومات المنتخبة، ناهيك عن المحاولات الانقلابية الأخرى التي لم يُكتب لها النجاح في عدد من البلدان الأفريقية.
وتحمل هذه الانقلابات دلالات عديدة ومهمة، لعل أولها أنها انقلابات تلتحف بقدر من الغطاء الشعبي، أو هكذا يتم تصويرها من قبل قادة الانقلابات، الذين يدّعون دوما أنهم قاموا بانقلابهم حفاظا على الأمن ولحماية لمصالح الشعب. وفي أغلب الأحوال فإن البيان رقم “واحد” الذي يتم فيه الاستيلاء على السلطة، والإطاحة بالرئيس والحكومة الموجودة، يحمل عبارات من قبيل أن التدخل العسكري “جاء من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية للبلاد” و”من أجل تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد ومنع الفوضى”؛ وفي أغلب الأحوال يتم إلقاء اللوم على الرئيس والحكومة فيما آلت إليه الأوضاع في البلاد التي “أوشكت على الدخول في حرب أهلية”، وفي بعض الأحيان يطلق قادة الانقلابات وعودا برّاقة بأنّ تدخلّهم مؤقت فقط، وأنه سوف يتم تنظيم انتخابات خلال فترة انتقالية تمتد ما بين عامين وثلاثة أعوام، وهو ما لا يحدث في أغلب الأحوال. رأينا ذلك في معظم الانقلابات، ليس فقط في أفريقيا، ولكن أيضا في آسيا كما هي الحال في تايلاند وميانمار، وكذلك في العالم العربي.
الدلالة الثانية هي أن هذه الانقلابات تتركز بالأساس في منطقة غرب أفريقيا بشكل أساس، وهي منطقة أصبحت أقرب إلى “حزام انقلابات” مشتعل، ولعل القاسم المشترك بين هذه البلدان أمران، الأول أنها مستعمرات فرنسية سابقة، ولا يزال لفرنسا وشركاتها -خاصة العاملة في مجالات النفط والسلاح والموارد الطبيعية- حضور قوي ومهم، يقوم على استغلال خيرات تلك البلدان في حين أن سكانها يعانون فقرا مدقعا، والأمر الثاني أن هذه البلدان تنتشر فيها التنظيمات المتطرفة مثل “تنظيم القاعدة” وكذلك تنظيم “الدولة الإسلامية”، كما هي الحال في مالي وتشاد وبوركينافاسو والنيجر؛ وقد سيطرت بعض فروع هذه التنظيمات على مساحات واسعة من تلك البلدان، كما حدث في بوركينافاسو التي سيطر فيها المتطرفون على ما يقرب من 40٪ من الأراضي، وهو ما أثار المخاوف من خطر تمددها وانتشارها في بقية بلدان الساحل الأفريقي، وكان أحد دوافع الانقلاب الذي وقع قبل عام ونصف.
والدلالة الثالثة هي أن هذه الانقلابات تجري في ظل حالة من السيولة العالمية، وفي ظل تغيرات هيكلية في بنية النظام الدولي، نتجت بالأساس عن الحرب الروسية على أوكرانيا، والصراع بين الولايات المتحدة والصين؛ لذلك فلا غرابة أن ثمة دعما روسيا سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر مجموعة “فاغنر” لقادة هذه الانقلابات سواء قبل أو بعد القيام بها؛ وقد شهدنا توطيد العلاقات بين مالي وروسيا خلال العامين الأخيرين، خاصة وأن قادة الانقلاب في مالي كانوا قد تلقوا تدريبات عسكرية في موسكو قبل أن يعودوا وينفذوا انقلابهم قبل عامين تقريبا. ولعل الوضع حاليا يشبه ما كان عليه أثناء مرحلة الحرب الباردة، خاصة خلال فترة الخمسينات والستينات، حيث انتشرت ظاهرة الانقلابات العسكرية، ووصل معدلها إلى أربعة انقلابات في العام على الأقل؛ ولكن وتيرة الانقلابات تراجعت بشكل ملحوظ بعد نهاية الحرب الباردة، خاصة في منطقة شرق وشمال أفريقيا، في حين ظلت على حالها بدرجة أو بأخرى في منطقة غرب أفريقيا، خاصة في تلك البلدان التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي. وقد يكون هذا التركيز الجغرافي مرتبطا جزئيا بجغرافية المنطقة، حيث الأرض شبه القاحلة التي تؤدي إلى انعدام الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي، وحيث المنافسة على الموارد المائية، والمناطق الحدودية التي يمكن للمتطرفين أن يختبئوا فيها. كما أن مسألة تغير المناخ لها دور مهم في تفاقم هذه المشاكل، وبالتالي عجز الحكومات عن الاستجابة لها، ما قد يبرر وقوع الانقلابات، أو على الأقل يتم استخدام هذه الظروف المعيشية الصعبة كمبرر للقيام بها.
أما الدلالة الرابعة، وهي مترتبة على سابقتها، فهي أن قادة هذه الانقلابات لا يعبؤون كثيرا بالضغوط التي تمارَس عليهم من أجل وقف انقلابهم على السلطة، سواء كانت هذه الضغوط إقليمية كما هي الحال مع الاتحاد الأفريقي أو المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، أو كانت دولية وخاصة من أميركا والاتحاد الأوروبي؛ بل إن قادة الانقلابات يوظفون هذه الضغوط في مسألة حشد التأييد الشعبي، عبر تصوير هذه الضغوط الخارجية باعتبارها مؤامرة على بلدانهم وسعيا للتدخل في شؤونهم، وذلك على نحو ما يحدث حاليا في النيجر، التي ترفض أية ضغوط خارجية من أجل التراجع عن الانقلاب وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة.
وعلى ما يبدو فإننا إزاء موجة جديدة من الانقلابات العسكرية في أفريقيا، وخاصة في منطقة الساحل، ولن يكون مفاجئا أن تستمر هذه الموجة باتجاه بلدان أخرى مثل الكاميرون وغانا ونيجيريا، وربما تذهب باتجاه شرق ووسط أفريقيا في المستقبل القريب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...