آرون بوشنل وطقوس الموت

بواسطة | مارس 4, 2024

بواسطة | مارس 4, 2024

آرون بوشنل وطقوس الموت

آرون بوشنل، الطيار الأمريكي الذي أقدم على انتحار أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، أثار تساؤلات حول مشهده الصادم. فقد ناضل بحياته للتنديد بسياسة دعم إسرائيل للاحتلال في غزة، مما أدى إلى موجة من الرفض والتجاهل في الولايات المتحدة، كاشفاً عن ازدواجية المعايير والاستهانة بالدم الفلسطيني.

صرخة غزة في واشنطن

سؤال قد تبادر إلى ذهني، عندما كنت أتابع الأخبار المتوالية تباعاً عن انتحار الطيار الأمريكي آرون بوشنل، في السادس والعشرين من فبراير الماضي أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجا منه على سياسة بلاده الداعمة للإبادة الجماعية، التي تمارَس على سكان قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.

كان السؤال: هل يجرؤ أي من الذين يعتقدون بحق إسرائيل في الأرض، أو حتى بحق الدفاع عن نفسها، الإقدام على ما قام به آرون بوشنل؟ الإجابة بكل تأكيد ستكون “لا”، فالفعل الذي أقدم عليه آرون بوشنل – رغم رفضنا له- لن يصدر إلا من أشخاص متيقنين بعدالة القضية التي قدموا أرواحهم قرباناً لها.. وفي هذه الحادثة يُعدّ الأمر جللاً، سيما وأنَّ الفاعل لا يتقاسم معنا لون البشرة أو اللغة، أو حتى جغرافية المكان، إلا أنه أراد في لحظة ملؤها الحنق أن يثور على دعم بلاده الأعمى للاحتلال، وتورطها حتى أذنيها في هذه الحرب، ليس فقط بالتمويل المالي وبالإمداد العسكري، بل بجنود من القوات الأمريكية كانت تقاتل في أنفاق غزة.

هذه المعلومات التي كان بوشنل يملكها بحكم  طبيعة عمله، التي كانت تنطوي على معالجة البيانات الاستخباراتية، وبعض ما كان يعالجه كان له علاقة بالحرب على قطاع غزة، وذلك استناداً إلى صحيفة واشنطن بوست نقلاً عن أحد أصدقائه المقربين، الأمر الذي ينقض ما كانت قد أعلنته بعد عملية طوفان الأقصى نائبة الرئيس الأمريكي، كمالا هاريس، إذ قالت: “ليست لدينا نية على الإطلاق، وليست لدينا أي خطط لإرسال قوات قتالية إلى إسرائيل أو غزة”.

هذه التصريحات، لن نقول إنها ستضع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في حرج من أيّ نوع، لأن رئيسها بات يلعب بوجه مكشوف، وأمام مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها الكيان الصهيوني تسقط الاعتبارات كافة، إلا أنها ستكون بمثابة صبٍّ للزيت على النار، وستؤثر على فترة الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي جو بايدن بكل تأكيد، وستشعل الشارع الأمريكي الذي بات مع امتداد الحرب مناهضا لها، ومناهضا لممارسات حكومته التي تجردت من إنسانيتها عندما وضعت يدها بيد الشيطان وقتَّلت قصفا وتجويعاً 30320 إنسان، منهم 12660 طفلا و8570 امرأة، بالاستناد إلى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ليوم أمس.. ولهذا اختار آرون بوشنل لنفسه ميتة تشهد على جرائم دولته بحق المدنيين في قطاع غزة، ميتة تخلد اسمه وتقلده أعلى الأوسمة التي ستنصبه بطلا حقيقيا في تاريخ الثائرين، الذين انحازوا إلى الحق أمام أبشع طقوس الموت في العصر الحديث.

اختار آرون بوشنل أن يضحي بحياته حرقاً، وهو يعلم أنَّ ما قام به لن يكون نقطة النهاية لهذه الحرب، لأنه لم يمت فداءً لإسرائيل، ولو كان ذلك لنُصبت له الشواهد، ولبدأت هوليوود بإنتاج الأفلام لتمجيده، ولكان بطلاً وصاحب رسالة وقضية.. أما موته لغزة ولأطفال غزة الجياع، الذين بدؤوا يموتون جوعاً – ونقولها حقيقةً لامجازاً- بسبب سياسة إسرائيل المعطلة لدخول المساعدات، فهي قضية فيها نظر!

تلك الاعتبارات بلغت الحد الذي دفع الإعلام الأمريكي لعدم تداول الحادثة إلا بعد تجريدها من دوافعها الإنسانية، وبعد قرابة الساعتين من وقوع الحادثة، متجاهلاً صرخاته بعبارة “فلسطين حرَّة”، حتى لا تخلق منه بطلاً أو قديساً، وبلاده هي الحليف الأكبر لدولة الاحتلال.. وحتى ردود الفعل الرافضة لم تكتف بالرفض فحسب، بل كانت ساخطة على ما أقدم عليه بوشنل، ورأت أنه فعل ينم عن علّة نفسية لا أكثر، وذلك لتسطيح تصرفه الناجم عن عمق بصيرة وإدراك، جعلاه يحط من قيمة فعله ويعتبر أنه لا يوازي ما يحياه الشعب الغزي من صنوف الموت والقهر.

هؤلاء الذين سخطوا على بوشنل، هم أنفسهم الذين مجدوا في وقت ما محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الذي أضرم النار في نفسه عام 2010، احتجاجا على مصادرة الشرطة عربته التي يعتاش منها، وكانت هذه الحادثة شرارة ثورات الربيع العربي، وهم أيضا الذين أضاعوا حق الناشطة الأمريكية راشيل كوري، التي ماتت وهي تدافع بجسدها النحيل عن منزل فلسطيني، إذ دهستها الجرافة الإسرائيلية التي كانت بصدد هدمه، وكان ذلك في قطاع غزة في 17 مارس 2003، وبعده بُرِّئت دولة الاحتلال عام 2012، ما يكشف ازدواجية المعايير، وتطويع القوانين كما تشاء قوى الشر خدمة لمصالحها.

خـتـامـا

بعد أيام من حادثة آرون بوشنل، خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن ليجيب على سؤال حول موعد للهدنة، التي يتم التفاوض حولها لوقف إطلاق النار في غزة، وكان يتلذذ بطعم المثلجات خلال إجابته على السؤال، في تعبير صارخ عن استهانته بالدم الفلسطيني الذي يُراق بكل وحشية منذ قرابة خمسة أشهر.

هذا المشهد يؤكد حقيقة الكيل بمكيالين، فهذا الرئيس هو نفسه الذي أعلن فرض عقوبات جديدة على فلاديمير بوتن – الرئيس الروسي- لوفاة السياسي الروسي المعارض ألكسي نافالني في محبسه، محمِّلاً إياه المسؤولية لموته.

2 التعليقات

  1. HUSSAIN MOHD

    إبداع أستاذه هديل كالعاده ..لقد رسمتي في هذا المقال المعنى الحقيقي لإزدواجية المعايير..شكراً لك

    الرد
  2. Lady Gaga

    ارون بوشنيل لا تصفه الكلمات .. أشجع من أمة..اختار الطريق الصعب ليكشف حقيقة العدالة و الحياديه المزعومه لدولته ..
    ضحى بحياته ليطلق صرخاته في وسط النيران التي تأكل جسده و ينادي بكل ثبات برغم الألم بالحرية لفلسطين . رافضا أن يكون جزءا من سياسة الإبادة لشعب غزة
    حقيقة أجد أمتنا صغيرة جدا ..أمام هذا البطل العملاق ..الذي أشعل شوارع الولايات المتحده لتنادي بحرية فلسطين . . في حين ما تزال أمتنا تنظر على استحياء من بعيد و تضرب كف بكف ، بل و البعض يحمّل المقاومة جريرة ما يحدث على أرض فلسطين .

    اشكر كاتبتنا على تسليط الضوء على هذا الحدث و على غيره من الأحداث و الممارسات التي تشهدها الأراضي الفلسطينية و تحديداً أرض غزة الصامدة.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...