أبناء الفرصة الثانية

بواسطة | يناير 26, 2024

بواسطة | يناير 26, 2024

أبناء الفرصة الثانية

استخلاص دروس قيمة من دعاء النبي سليمان عليه السلام وتعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مع التركيز على مفهوم “الفرصة الثانية” وكيف يمكن للإنسان التغلب على الزلات والأخطاء في حياته.

دروس من دعاء النبي سليمان عليه السلام وتعاليم النبي محمد ﷺ

أذنب نبي الله سليمان ذنبًا فدعا ربه مستغفرًا: «قال ربِّ اغفر لي وَهَبْ لي مُلكًا لا ينبغي لأَحدٍ من بعدي ۖ إنَّك أَنت الوهَّاب» [سورة ص: 35].. وسليمان (عليه السلام) له صفات ذكرها ربنا في كتابه، أهمها العلم، وأنه أوتي من كل شيء، واطَّلع على منطق جميع المخلوقات، ما زاد من حكمته، ووعيه وفهمه للحياة.

هذا النبي الحكيم عندما أذنب ذات يوم دعا ربه بالدعاء الذي بدأنا به حديثنا، فهل لفت نظرك يا صاحبي شيء في دعاء سليمان ربَّه؟ لقد اعتذر عن خطئه كما رأينا، غير أنه لم يوقف حياته عند زلَّته، وأكمل تضرعه بطلب يعينه على تحقيق مراده، والأشد دهشة أنه لم يختم كلامه – وهو يستغفر- بقول «إنك أنت الغفور» أو «إنك أنت الرحيم» وإنما قال «الوهاب».. ألا يدفعك هذا لطرح سؤال ما؟! سؤال عن طبيعة هذا النبي الذي فهم الحياة فهمًا دفعه لأن يعرف ما يجب عليه فعله! وما يجب فعله هو ألا نوقف حياتنا عند زلَّة، أو فشل، أو ذنب، أو تقصير ما.

حقيقةً، إن النبي الحكيم بعدما استغفر ربه، واعتذر عن خطئه، وراجع حساباته، قرر أن يوجِّه كامل طاقته إلى ما يريد فعله ويتمناه، وقوله «إنك أنت الوهاب» وليس «الغفور» أو «الرحيم»، معناه أن نبينا سليمان قد تجاوز الماضي بكلِّيته.. إنه مزيج بين حُسن الظن في ربه الذي يغفر إذ دُعي، وبين إيمانه بأن إلهه قد خلقه لشيء ما يجب عليه فعله، ولا ينبغي أن يوقفه عن الوصول إليه مانع، حتى وإن كان ذنبًا أو سقطة، صغيرة كانت أو كبيرة.

إنها فلسفة الفرصة الثانية، التي لم يهتمّ أحد بتعليمنا إياها، إذ انشغلوا بحبسنا في قمقم خطايانا السابقة.

يُحكى أن رجلًا خفيف الظل كان يحب النبي، ويأنس به النبي لجمال روحه وظُرف لسانه، غير أن هذا الرجل كان مبتلى بداء السُّكر، وكثيرًا ما كان يؤتى به للنبي في حال مزرية بسبب ضعفه أمام هذا الأمر، فكان النبي ينصحه، ويعنِّفه، ويعاقبه، غير أنه لم يسمح يومًا لأحد أصحابه حين تندَّر على نقطة ضعف الرجل وقام بازدرائه قائلًا: «اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتَى به» أي يؤتَى به وقد أذهبت الخمر عقله.

هنا وقف النبي مدافعًا عن الضعف الإنساني كله، وقف ليضع خطوطًا فاصلة بين فكرة كراهية الشيء الخاطئ وكراهية المخطئ، قال كلمة مهمة وعظيمة وذات دلالة: «لا تلعنوه، فَوَاللَّه ما علمتُ إنه يحب اللَّهَ ورسولَه، لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»؛ وهنا يتبدى لنا موقف النبي (ﷺ) من فكرة زَلَل الإنسان وضعفه أمام شهوة ما، إنه يفصل جيدًا بين فكرة كونك شخصًا مخطئًا قد نحزن عليك، أو نغضب منك، أو نُحبَط لسلوكك المؤذي لنفسك ومَن حولك، وقد نضع القوانين التي تعاقبك حال تكرار خطأ مُضرٍّ لك وللآخرين، غير أن كل هذا لا ينفي فكرة كونك إنسانًا قد تحمل بقلبك حبًّا كبيرًا، وخيرًا عظيمًا! قد تكون في أتون معركتك، منشغلًا بصراعك بين السامي والخسيس بداخلك، تناضل وتكافح وتعاني، متألمًا من ثلمة ما في شخصيتك، أو شهوة ما تُضعفك، تحسب -بوجع- المسافة بين ما أنت فيه وما تؤمن بأنك قد خُلقت من أجله..

والأشد مرارة أن تجد نفسك مدانًا في أعين بشر يهوون تتبُّع الزلات، ويعمون عن رؤية أي نور، فيجعلون بينك وبين أرض التوبة أمدًا بعيدًا، يعظِّمون خطاياك حتى تظن نفسك شيطانًا كُتبت عليه اللعنة، ويسفِّهون من أي مساحات للخير فيك، ولطالما وقع بعضنا في بئر الشر، لأن يد الخير المتسامية دفعته بداخلها!

«لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» قالها النبي (ﷺ) فحفظناها غير أننا لم نفهمها.. بلى، نحن لم نفهم بعدُ كيف يمكن أن نُعين الشيطان في وأد الخير في نفوس بعضنا ونحن نظن أننا نفعل الخير، نبيع للناس الجحيم ونحن نستغفر الله! نخنق أرواحهم التي أخطأت بحجة السمو والطهارة.

الأشقياء وعتيدو الإجرام لم يصبحوا هكذا بين عشية وضحاها، الأرحام لا تحمل نُطفًا نبيلة وأخرى خبيثة، ثمة أناس وظروف ومواقف غذَّت مع الوقت الشر بداخلهم، وقتلت فيهم نوازع الخير والرحمة. للأسف، الإنسان ليس أمينًا على الإنسانية! ولا عجب يساوي عجبك مِن قاتل مقتول، وظالم مظلوم، وصاحب خطيئة يُشرف بدأب على تنظيم صفوف العصاة قبل أن يلقيهم في الجحيم!

أزمة المنكسر المهزوم مريرة، والمآزق النفسية التي تحيط به كثيرة ومتشابكة، قد يقع في مأزق ازدراء الذات وفقد الثقة بها، ومن ثمَّ عدم الرضا المستمر، وقد يلوم البشر والحجر ودوران الأيام وتدابير القدر.. قد يعادي مجتمعًا لم يرحمه، أو يقسو على إنسانية رأى منها الوجع، وربما وجد في الانتقام من نفسه وممن حوله حلًّا لمأساته، وقد يُنهي حياته إن زادت حدة الصراع بعقله.

وهنا يطلُّ بتعاليمه النبي محمد (ﷺ) مرة أخرى، إذ نوّه الرجلُ الحكيم إلى أن من عبادات الإنسان على سطح الأرض عبادة «الكلمة الطيبة»، وعدَّها من جُملة الصدقات التي قد تُدخل المرء الجنة؛ والكلمة الطيبة التي قد تُدخل الجنة في يقيني هي شيء أكبر من عذوبة في اللسان، إنها الكلمة إذ تُحيي نفوسًا، وتوقظ أملًا، وتيسِّر صعبًا، وتهوِّن على خلق الله ما يلاقونه في حياتهم…

كلمة المرء منّا حين يدخل بيتًا فيزيِّنه في عيون أصحابه، ويرى حسنًا فيقف عنده ويشيد به، ويؤلمه العوج والقبح فيعمد إلى إسداء النصيحة التي من شأنها الإصلاح لا التشهير وتسجيل المواقف…

نعم، هي الكلمة التي تَمنَّينا سماعها حين سقطنا وسمعنا عوضًا عنها كلمات الشماتة والتشفي، وانتظرناها حين بدأنا برسم أمانينا فصدمتنا عبارات الإحباط وتثبيط الهمة، وحلمنا بها حين عبَّرنا عن مشاعرنا ومخاوفنا بصدق وجدِّية، وكانت بديلتها عبارات التخويف ونصائح التعقل والدوران في الفلك القائم الذي لا نرضى عنه.

نحن ببساطة يا صديقي لدينا أزمة تفشي وباء الإحباط، الذي يقدر بعنفوانه على عرقلة الناجحين وتسفيه أمانيهم، فما بالك بما يمكن أن يفعله في نفوس منكسرة موجوعة!

وعليه، فإن نصيحتي لك أن تفهم ما يتواطأ الجميع على عدم إفهامنا إيَّاه، وهو أن مبدأ «الفرصة الثانية» يجب أن يكون حاضرًا في ذهنك على الدوام، فكرة أن كل حمولتك الثقيلة من المخاوف والذنوب والأخطاء والعثرات التي قمت بها، يمكن أن تكون ماضيًا في أي لحظة.. مهما كان حجم الفوضى، وثِقل إرثك المخزي، فإن ربًّا تسامَح مع فكرة أن يتطهر قاتل تُحاصر مُخيلته صور ضحاياه المئة، لَبَاعثٌ على أن نكفر بأي فكرة أو رأي أو إحساس كاذب بأن هناك  أخطاء يمكنها أن تُنهي موقفنا في الحياة.

الله ليس عصبيًّا مثلنا، حاشاه، لديه -جلَّ اسمه- حساباته الخاصة في التعامل معنا، رحمته دائمًا تسبق عدله فضلًا عن غضبه، وحلمه على الضالين من عباده يفوق قدرتنا البشرية على الفهم، لا شيء في صفات هذا الإله يمكنها أن تُربكك وتُخيفك! عذابه، وانتقامه، وجبروته، ليست هي أصل صفاته التي يتعامل بها مع عبيده، وإلا لَما وجدتَ على أرضه من يكفر به على أقل تقدير، الأمر أعظم شأنًا من هذا بلا شك.

أنت مأمور بأن تُكمل السباق لآخره، لا يوجد داعٍ لليأس، عِش كل أحوالك النفسية: ابكِ لو أحببت، احزنْ لو شئت، تألمْ من وجعك وَاِرْكَنْ لخلوتك لبعض الوقت، ثم احذر أن تكون هذه هي أيامك كلها، وديدنك المستمر.. افتح نوافذ حياتك ليوم جديد، وفرصة جديدة، ومحاولة إضافية…

يا صاحبي… أبناء «الفرصة الأخرى» هم أبناء الإنسانية كلها، ومن يُحرزون أهدافًا من تسديداتهم الأولى هم عيال الصدفة، وبما أننا لسنا من هؤلاء المحظوظين، فواجب علينا أن نسدد تسديدة ثانية، وربما ثالثة أو رابعة.

صدِّقني سيظل المرمى ثابتًا، والمباراة دائرة، وفرصتك في تسجيل الهدف مرهونة بمحاولاتك المتكررة، وتعلُّمك السريع، وإصرارك الذي يرفض كل من يحاول إنهاء مباراة حياتك قبل أوانها!

1 تعليق

  1. إكرام الخروبي

    كاتبنا كريم الرائع شكرا على فتحك ابواب الامل في وجوهنا المظلمة

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...