أبو ماهر اليماني.. تجربة نضالية من فلسطين

بواسطة | أبريل 20, 2024

بواسطة | أبريل 20, 2024

أبو ماهر اليماني.. تجربة نضالية من فلسطين

قصتنا اليوم مع رجل خاض غمار تجربة نضالية ثرية وطويلة، رأى فلسطين قبل عام 1948م، وعايش النكبة بنفسه، وأزال الإسرائيليون قريته من الوجود، عاش التهجير وحياة المخيم، وانضم إلى النضال الفلسطيني منذ شبابه الباكر، سجَّل محطات حياته في مذكرات بعنوان “تجربتي مع الأيام”، وقد صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن السلسلة المهمة بعنوان “ذاكرة فلسطين”.

وُلد أحمد حسين اليماني في قرية سحماتا، التي يقول عنها: “قريتي الحبيبة، زهرة من رياض الجليل الأعلى، ألا يا سحماتا، ما أحَبَّك إلى قلبي! وما أجملك في نظري!”. تقع القرية إلى الشمال الشرقي من مدينة عكا الساحلية، عاش فيها طفولته، وفي سن السادسة خرج الفتى أحمد من قريته إلى عكا بصحبة والده، ذلك الوالد الذي باع بقرته ليشتري بندقية، ويربّي ابنه على الكفاح.

وفي الثلاثاء الأحمر، 17 يونيو/ حزيران 1930م، تفتَّحت عينا الطفل على مشهد الشهداء الثلاثة: عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، الذين حكمت عليهم سلطات الانتداب البريطاني بالإعدام.. ارتسمت في مخيّلة الطفل صورة الشهداء وجثامينهم معلَّقة على أعواد المشانق، فهزّت الجريمة وجدانه، وأدرك الظلم الاستعماري منذ طفولته وشعر بقسوته.

“عشتُ في السنوات الأولى من طفولتي حوادث أثّرت في نفسي، رأيت أعواد المشانق تُنصَب، وسمعت صراخ النساء وهتافات الجماهير، ولمَّا سألت والدي: ليش عمل العسكر سجن هيك؟ قال: لأن العسكر ضد الثوار الوطنيين.

كنا طلابًا، نشعر بأن الثورة تنمو وتتصاعد، نشعر بها في البيت وفي الشارع وفي المدرسة.. وفي البيت نرى سلاح الآباء يخبّئونه لمقاومة الجيش البريطاني، ومهاجمة المستعمرات التي يقيمها الغزاة على الأرض التي تمنحهم إياها حكومة الانتداب”.

يتحدث اليماني عن ثورة البراق بعد أن تبنّت عصبة الأمم “وعد بلفور”، وراحت تُصدر القوانين لتسهيل الهجرة اليهودية.

عمل أبو ماهر في دائرة الزراعة بعكّا، وفي دائرة الأشغال العامة بحيفا، واندمج مع العمل النقابي، فكان شعلة متحركة تتميز بالعناد والمثابرة.. توثِّق مذكّرات اليماني تفاصيل تاريخ العمل النقابي في فلسطين قبل ظهور إسرائيل، فقد خاضت النقابات المركزية معارك نقابية لتحسين شروط استخدام العاملين العرب في الدوائر الحكومية، ومساواة أجورهم بأقرانهم من العاملين اليهود؛ وتعرَّف اليماني في تلك المرحلة إلى القيادي العمالي سامي طه، وتأثَّر بتجربته الغنية في العمل النقابي، وحزن لاغتياله.

بعد نحو ستة أسابيع من اغتيال سامي طه، اتخذت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قرارًا بتقسيم فلسطين، ورفض الشعب العربي قرار التقسيم، وعمَّت المظاهرات أنحاء العروبة، وهُرِع أبناء فلسطين إلى الأقطار العربية لشراء الأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية.

يقدِّم أبو ماهر اليماني في مذكِّراته شهادته على لحظة النكبة عام 1948م، إذ أسهم في النجدات التي طلبتها قوات جيش الإنقاذ، ورأى الدمار والخراب الذي حلَّ بمدن فلسطين، ومُحِيَت قريته سحماتا من الوجود، وهُجِّرت عائلته من فلسطين.

يقول في مذكراته: “ورُحنا في طريق عودتنا نسير في أحياء ترشيحا، وكم كانت المناظر مؤلمة.. منازل باتت أنقاضًا، نساء وأطفال ورجال يبكون أهلهم، رجل يبحث عن زوجته وأطفاله تحت الأنقاض، طفل خرج من بين الأنقاض وحيدًا يبكي والدته وإخوته تحت الأنقاض، مواطنون يحملون بعض المتاع يهيمون على وجوههم طلبًا للنجاة، عجائز يبكين خارج المنازل ولا يستطِعْن المشي”.. هل يصف غزة؟ سبحان الله! إنه إجرام إسرائيل منذ النكبة وقبلها.

ويكمل الوصف في مذكراته قائلًا: “وصلت إلى أهلي، وقالوا لي: كيف وصلت؟ وكيف غامرت والطريق غير آمنة، والوضع في المدينة مشتعل؟ فالعصابات الصهيونية تنتقل من حيّ إلى حيّ، والسلطات البريطانية تُخلِي المراكز الحكومية فيحتلُّها اليهود”.

اعتقلت قوات (عصابات) الهاجانا أبا ماهر اليماني، وكانت الجملة الأخيرة التي سمعها أبو ماهر في فلسطين: “هيا الحقوا القاوقجي، الحقوا جيش الإنقاذ، اذهبوا إلى لبنان، وإياكم أن تعودوا، وسنقتل كل من يحاول العودة”.. هنا بدأت رحلة التشريد في حياته، بدأت حياة المنافي، وفي مخيَّمات لبنان عاش شبابه وعلّم الطلبة والفِتْية حُبَّ فلسطين.

أبو ماهر ابن المخيم بامتياز، وقد ظل مهجوسًا على الدوام بتحويل المخيم إلى كتلة من الحيوية والنشاط والتعليم والتنظيم، والثورة.

وفي مطلع عام 1951م، صار مديرًا للمدرسة الابتدائية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، وكان وراء فكرة إنشاء مدرسةٍ في برج البراجنة، وزرع اليماني حب فلسطين في الطلاب، ورغم أنه عُرض عليه العمل مع اليونسكو، فقد فضَّل أن يبقى مربِّيًا لأطفال المخيمات في لبنان.

وفي عام 1956م، استطاع أبو ماهر اليماني مع مجموعة من أصدقائه الحصول على دعم سنوي من الملك سعود، الذي قدَّم سنويًّا مبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني، مساعدةً للفلسطينيين المقيمين في لبنان. أسهم هذا المبلغ في بناء مبرَّة الملك سعود، وهي مدرسة لتعليم أطفال المخيَّمات بدعم تربويٍّ من مصر.

لكن أبا ماهر اليماني طُرد وفُصل من عمله في “أونروا” بسبب منشوراته ونشاطه السياسي، ولم تتوقَّف أجهزة المخابرات العسكرية – بالتحديد الشعبة الثانية في لبنان- عن ملاحقته والتحقيق معه.. والتُّهم جاهزة دائمًا، وهي تحريض الفلسطينيين على الإضراب والتظاهر.

في تلك الفترة تَعرَّف أبو ماهر اليماني إلى وديع حداد وجورج حبش، وأصبح عضوًا في قيادة حركة القوميين العرب؛ وعلى الرغم مما واجهه اليماني من معاناة ذاتية، ومصاعب حياتية، متنقلًا بين السجون والثكنات العسكرية، وعلى الرغم مما تعرض له أفراد أسرته، خصوصًا شريكة حياته زوجته أم ماهر، من قلق على المستقبل وتأمين الاحتياجات المعيشية والمدرسية للأبناء، وصل إلى حدّ جمع بعض إخوة المخيَّمات تبرُّعات لمساعدة العائلة في أثناء فترات اعتقال اليماني.. رغم ذلك كله، تابع اليماني السير في السبيل الذي اختاره بنفسه، ولم تُرهبه حملات قرع الباب في الليالي المظلمة، ولم يستسلم للشتائم اللاذعة المترافقة مع عمليات اللطم واللكم، ولا الشَّبْح في سقف الغرفة بعض المرات.

رأى أبو ماهر اليماني أن العمل العسكري والتنظيمي لتحرير فلسطين أولوية، لذلك بدأ تشكيل المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين، وبعد انتسابه إلى حركة القوميين العرب أدرك أنه لم يكن وحده الذي فكّر في العمل العسكري، بل هناك أيضًا مجموعة من الشباب العربي، أطلقوا على أنفسهم “كتائب الفداء العربي”، واشترى أبو ماهر رشّاشًا من طراز كارلو، هذه الأسلحة البسيطة هي التي أسهمت في تجهيز مجموعة شباب الثأر، التي استُشهد فيها خالد الحاج أبو عيشة، وفيها أيضًا استُشهد شقيقه، محمد اليماني، فيما عايش أبو ماهر تجربة السجن 55 مرة في لبنان.

في شباط/ فبراير عام 1959م، التقى أبو ماهر اليماني الرئيس جمال عبد الناصر بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الجمهورية العربية المتحدة، وفي ذلك اللقاء طلب اليماني من عبد الناصر أن يمدّهم بالتدريب والسلاح؛ وردَّ عبد الناصر مقدِّرًا وواعدًا، ومما قاله للسراج: «السلاح موجود، والتدريب حاجة سهلة»؛ والتفت نحو السيد السراج قائلًا: «مش كده يا عبد الحميد؟».. فأجابه السراج: «أمرك سيادة الرئيس».

وكان التجاوب العملي سريعًا، وجرت عدة دورات تدريب عسكرية في سوريا، بإشراف ضابطين قريبَين من الحركة؛ أما بالنسبة للسلاح، فقد تسلَّموا 27 بندقية آلية مع ذخيرتها، وجرى ترتيب عدة دورات بقاعدة أنشاص العسكرية في مصر.

هناك محطة أخرى في مسيرة أبي ماهر اليماني، فهو أحد مؤسسي “إقليم فلسطين” في حركة القوميين العرب، الذي تحوّل لاحقًا إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليكون فيها قائدًا إلى جانب جورج حبش ووديع حداد، بالإضافة إلى كونه الممثل شبه الدائم في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن الجبهة الشعبية.

وفي مقدمة الكتاب، الصادر عن المركز العربي، تنبيهٌ عما تصمت عنه المذكرات في إيراد تفاصيل أكثر عن تلك الحقبة، ولعلّ كثيرين ممن تَوقَّعوا مفاجآت وحالات من الكشف عما يحدث عادةً في مذكرات السياسيين شعروا بشيء من الخيبة، وأن ما بين أيديهم مما هو منشور لا يلبّي الرغبة في الكشف أو الوقوع على بعض أسرار المرحلة، فلا شيء – ولا حتى كلمة- عن أحداثٍ عاصفةٍ كان الرجل في وسطها، من قبيل النقاشات الحامية في الحركة بين اليمين واليسار، وانفراط عِقد مكوِّنات الجبهة الشعبية، بخروج جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة أحمد جبريل منها. كذلك يغيب الحديث عن أحداث سبتمبر/ أيلول 1970م في الأردن، فلا ذِكرَ لتلك الوقائع التي شكّلت مقدِّمات الصدام.

وتنسحب سمة الغياب على ما حدث في لبنان، وشهادته عن الحرب الأهلية ودور الفلسطينيين فيها؛ وعلى صعيد العلاقات الداخلية في الجبهة، يغيب أي كلام عن الخلافات بشأن العمل الخارجي بقيادة وديع حداد، وغير ذلك من الموضوعات التي كان من المهمّ معرفة موقف أبي ماهر منها، أو على الأقلّ الاطلاع على وقائعها منه تحديدًا، وهو المناضل المشهود له بالنزاهة والاستقامة.. ويبدو أنّ الرجل تَعمَّد الابتعاد عما هو إشكالي، أو جميع ما يمكن أن ينكأ جراحًا اندملت بطريقة ما.

في المجمل، المذكرات لا تحتوي على مراجعات أو تصحيحات ونظرة للنضال وأخطاء الرفاق، وهي عادة تنتشر في المذكرات العربية.

هذه سيرة رجل من فلسطين، عاش النكبة وتعرض للتهجير وحياة المنفى والسجون والنضال، وسجَّل لنا تجربة حياته، وهي جزء من سيرة شعب حي يقاوم ويناضل منذ قرن من الزمان.

وفي تقديم الكتاب، يشير السياسي الفلسطيني جورج حبش (1926–2008م)، إلى أنه “ودون أيّ مجازفة أو مبالغة، يمكن القول إن سلوك الرجل كان نموذجًا يُحتذى، فقد اشتُهر أبو ماهر بنظافة اليد واللسان، وبقدر كبير من النزاهة الأخلاقية، الأمر الذي جعله يستحق لقب (ضمير الثورة)، فقد عرفه الجميع إنسانًا متواضعًا إلى أبعد الحدود، في مأكله وملبسه ومعيشته، وحسّاسًا إلى أبعد الحدود تجاه رعاية عوائل الشهداء والأسرى، وتجاه واجب الاهتمام بهم وتكريمهم، وتقديم جميع احتياجاتهم في حدود الإمكان”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...