أصداء السابع من أكتوبر: هزيمة إسرائيل الاستراتيجية

بواسطة | أبريل 6, 2024

بواسطة | أبريل 6, 2024

أصداء السابع من أكتوبر: هزيمة إسرائيل الاستراتيجية

في الساعات الأولى من يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو اليوم المحفور الآن في سجلات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تحطم الوضع الراهن، وكما هو الحال مع التجربة الأميركية في فيتنام، حيث كان هجوم تيت بمثابة نقطة تحول، فإن إسرائيل تجد نفسها في مأزق غريب.

فإسرائيل على الأرض تسيطر على معظم قطاع غزة، ولكنها تتعثر في حرب الروايات والمكانة الأخلاقية، فبعد حادثة مقتل 7 من عمال الإغاثة التابعين لمنظمة المطبخ المركزي العالمي، والمكالمة التي أعقبتها بين نتنياهو وبايدن، ومطالبة الأخير بضرورة الوقف الفوري للحرب في غزة، والتلويح بتغيير سياسة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء الوضع الراهن، عاد السؤال الأهم حول الخسارة الاستراتيجية لإسرائيل في هذه الحرب، وإلى أي مدى ساهمت عملية السابع من أكتوبر وما أعقبها في وضع إسرائيل أمام واقع عالمي جديد باتت فيه أكثر انكشافًا وعزلة، فيما بات الحق الفلسطيني أكثر قوةً ووضوحًا؟

إن الهزيمة الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل اليوم لا تتعلق بخسارة الأراضي، بل بفقدان الخطاب والشرعية الدولية، فوجود إسرائيل منذ نشأتها ظل مرهوناً بمدى قُدرتها على إقناع المجتمع الدولي، والشعوب الغربية تحديدًا، بأحقيتها في إقامة وطن لها على أرض فلسطين، وقد سارت نحو ذلك في اتجاهين: الأول شكلته البروبوغاندا الإعلامية الهائلة التي ركزت على فكرة أن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وأن إقامة وطن لليهود هو الوسيلة الوحيدة لحمايتهم كعرق بعد محرقة الهولوكوست؛ أما المسار الثاني فكان باستخدام عصا “معاداة السامية” لمنع أي انتقاد مهما كان لإسرائيل، وملاحقة كل الرافضين لاحتلالها تحت هذا القانون.

لكن الواقع بعد السابع من أكتوبر يبدو مختلفًا تمامًا، فأمام المجازر الإسرائيلية المروعة، وعمليات القتل التي تتم على الهواء مباشرة، لم تعد الرواية الإسرائيلية مقنعة، ولم تعد الدول الغربية قادرة على تفعيل قانون معاداة السامية في وجه رافضي الإبادة الجماعية، ووجد النظام الرسمي الغربي نفسه أمام متناقضات صعبة للغاية، فهو من جانب يريد دعم إسرائيل وبقاءها، ومن جانب آخر يجد أن القيم الغربية الليبرالية باتت على المحك وفي اختبار عسير. وفي استحضار للتاريخ القريب، نجد تجارب لدول عديدة قد واجهت أنماطًا مختلفة من قوى الاحتلال، خلصت جميعها إلى حقيقة واحدة، هي “أن النصر في ساحة المعركة لا يعني الكثير عندما نخسر الحرب من أجل كسب القلوب والعقول”.

وعلى نحو مماثل، تقف إسرائيل على الرغم من قوتها العسكرية عند مفترق طرق، وقد شوهت صورتها، وأصبحت مكانتها الأخلاقية محل شك على مستوى العالم، وبات الدعم والإسناد الغربي لها خجولًا، وأكثر من ذلك تُظهر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية أن الجيل الجديد بات يطرح سؤالًا حول أحقية إسرائيل في إقامة وطن على حساب الشعب الفلسطيني؟!

لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مجرد يوم آخر من أيام الصراع، بل كان كشفًا عن نقاط الضعف في إسرائيل، العسكرية منها والأخلاقية على حد سواء، ومع سقوط أكثر من 110 آلاف ضحية، بما في ذلك 34 ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، واعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأعداد مماثلة، أصبحت أنظار العالم محرجة.. إن إسرائيل، التي كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها مجموعة عرقية من الناجين من المحرقة الذين يبحثون عن اللجوء والأمان، تقف الآن أمام محكمة العدل الدولية، وهي متهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية وفظائع أثارت الإدانة، حتى من الولايات المتحدة، حليفتها القوية التي باتت تجد نفسها عاجزةً عن الدفاع علنًا عن تصرفاتها، وصولًا إلى الامتناع عن استخدام الفيتو ضد قرار في مجلس الأمن للمطالبة بوقف إطلاق النار، وهو ما يراه كثيرون في إسرائيل بمثابة “هزيمة استراتيجية أخرى”، ويشكل تحولًا كبيرًا في الديناميكيات الدولية، وهو ما يذكرنا بالعزلة التي واجهتها أميركا نفسها أثناء المراحل الأخيرة من حرب فيتنام.

تاريخيًّا، بُنيت رواية إسرائيل على الوعد بتوفير ملاذ آمن لليهود، وهو ما تم تبريره من خلال روايات المعاناة والبقاء. ومع ذلك، فقد كشفت أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وتداعياتها عن فراغ أخلاقي صارخ في قلب سياسات إسرائيل وأعمالها العسكرية، ما يُعيد للأذهان مجددًا الأيام الأولى للنكبة الفلسطينية قبل 75 عامًا، عندما مارست العصابات الصهيونية مثل “هاجاناه ـ إرجون ـ بيتار” عمليات إبادة وتطهير عرقي، ما دفع مليون فلسطيني للنزوح من فلسطين، فيما قتل وأصيب عشرات الآلاف.. لكن المفارقة أن تلك المشاهد تمت بعيدًا عن وسائل الإعلام، بينما الإبادة الحالية يعيشها العالم ويراها على الهواء مباشرة، وهو الأمر الذي وضع الرواية الاسرائيلية في مأزق حقيقي، وأمام أسئلة جوهرية تتعلق بأصل وجودها، ما يعني فشل المسار الإسرائيلي الحالي، الذي يعتمد على القوة الساحقة في معالجة القضايا الجذرية للصراع، أو كسب تأييد الرأي العام العالمي، وتلك محطة أخرى من محطات الهزيمة الاستراتيجية التي ستعاني منها إسرائيل.

أصداء الماضي هنا يتردد صداها بصوت عالٍ، في أمثلة مثل معركة الجزائر، حيث لم يكن من الممكن ترجمة النصر العسكري الفرنسي إلى فوز سياسي بسبب التداعيات الأخلاقية والدولية لأفعالهم. وتجد إسرائيل نفسها في مأزق مماثل، حيث تطغى على مزاياها التكتيكية على الأرض الأخطاء الاستراتيجية الفادحة، المتمثلة في فشلها في التنبؤ بتآكل “قيمتها الأخلاقية العالية”، ووحدة الإدانة العالمية.

ليس ثمة دليل أن هناك تغييرًا حقيقيًّا على مستوى المواقف الرسمية الدولية قد حدث حاليًّا بالفعل، لكن الواقع بعد ستة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة بات أفضل لصالح القضية الفلسطينية على المدى القريب والمتوسط، وأكثر صعوبةً وتعقيدًا على صانع القرار الإسرائيلي.. وإن تدفق الدعم الدولي لفلسطين يؤكد على أن إجماعًا دوليًّا ضد القمع بدأ يتشكل تحت ضغط الشارع وتأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي، التي نجحت في كسر الصورة النمطية لدى الوعي الغربي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالإدانة واسعة النطاق لإسرائيل، إلى جانب الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، تعكس التحول في المواقف العالمية تجاه النظام القمعي الاستعماري في إسرائيل، كما أن موقع المجتمع الدولي الذي كان متذبذبًا ذات يوم، أصبح الآن يتوافق بقوة مع مبادئ تقرير المصير وحقوق الإنسان، ما يشير إلى تحول كبير في السردية لمصلحة القضية الفلسطينية.

إن هزيمة إسرائيل الاستراتيجية لا تتلخص في خسارة معركة واحدة، بل في انهيار أساسها الأخلاقي والسردية التي طالما احتفظت بها. وكما هو الحال في فيتنام سابقًا، حيث لم تنكسر الروح الأميركية بسبب الهزيمة العسكرية بل بسبب إدراك العواقب الأخلاقية لأفعالهم، فإن إسرائيل تقف على مفترق طرق، وعليها أن تختار بين الاستمرار في طريق العزلة الأخلاقية، أو احتضان فصل جديد يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته، وكلٌّ من الخيارين لا يبدو أن صانع القرار الإسرائيلي مستعد له بعد مفاجأة السابع من أكتوبر، فاستمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي لن يكون مقبولًا على المستوى الدولي مع تزايد القلق من توسع الصراع، وفي المقابل فإن إعطاء الفلسطينيين حقوقهم يتصادم مع رغبة اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يتحكم في صناعة القرار.

في الختام، تبرز الهزيمة الاستراتيجية لإسرائيل بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عبر التحول الواسع في النظرة لحقيقة الاحتلال الإسرائيلي، وزيادة القناعة لدى الشعوب بضرورة منح الشعب الفلسطيني الحق في وطنه وأرضه، والرفض المتزايد للتطهير العرقي وحرب الإبادة.. هذه الهزيمة التي يحاول الاحتلال إظهار التماسك إزاءها أو التعايش معها مرحليًّا، تذكّرنا بتلك اللحظات المحورية في فيتنام والجزائر وغيرها من المراحل التاريخية، فهي بمثابة تذكير بأن النصر الحقيقي لا يكمن في غزو الأرض وتحقيق قدر كبير من عمليات القتل بحق أهلها الأبرياء، بل في الفوز بالسردية والدعم العالمي.

بالنسبة للفلسطينيين، فإن يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يتجاوز المصاعب المباشرة والألم والغضب الناتجين عن المذابح الإسرائيلية؛ ويبرز كلحظة فارقة حيث انقلبت موازين الصراع لصالحهم، ما يمثل تحولًا كبيرًا نحو العدالة وتقرير المصير ودفع العالم للاعتراف بالحقوق، كخطوة على طريق التحرير الشامل للأرض الفلسطينية.

2 التعليقات

  1. عبدالله الموحد

    صدقت فإن السابع من أكتوبر نصر خالص للفلسطينين فقط، ثم لأمه مخذوله ذليله لا تستحقه، بارك الله فيك ونصر اهلنا في فلسطين وسدد رميهم وتقبل شهدائهم ، فأنتم فخر للاسلام

    الرد
  2. anas lahlou

    ضعف الكيان الداخلي لا ينقص شيء من بطولة من خطط و نفذ احد اكبر الفتوحات في التاريخ.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...