“أمراء الحرب” في أميركا

بواسطة | يونيو 1, 2023

بواسطة | يونيو 1, 2023

“أمراء الحرب” في أميركا

أواخر العام الماضي أقرّ الكونجرس الأميركي ميزانية وزارة الدفاع (البنتاجون) للعام الجاري، التي وصلت إلى حوالي 858 مليار دولار، وذلك بزيادة قدرها حوالي 4٪ عن ميزانية العام الذي سبقه، التي بلغت حوالي 777 مليار دولار؛ وهذه هي أكبر زيادة تاريخية في ميزانية وزارة الدفاع الأميركية. علما بأن الجمهوريين، لا الديمقراطيين، هم عادة أكثر من يهتمون بزيادة ميزانية الدفاع، وذلك على نحو ما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وحسب تقارير إخبارية، فإنه منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا قدمت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات، و”جافلين” المضادة للدبابات لأوكرانيا. في حين كشفت تقارير صحافية أن حوالي 18 عضوا في الكونجرس الأميركي وزوجاتهم لديهم أسهم في شركات السلاح التي تصنّع صواريخ “ستينغر” و”جافلين”، خاصة في شركتي “رايثون تكنولوجيز” و”لوكهيد مارتن”، اللتين حققتا حتى الآن أرباحا هائلة تقدر بمليارات الدولارات على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا.

حذّر الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثون، دوايت إيزنهاور، من خطر ما أسماه “المجمع الصناعي العسكري” على عملية صنع السياسة في أميركا. وكان إيزنهاور يقصد التحذير من التأثير الكبير للوبي شركات تصنيع السلاح في الولايات المتحدة

الخيط الناظم بين هذه الأخبار والتقارير واضح وليس بحاجة لذكاء شديد لاكتشافه، وهو أن أكبر الرابحين من الحروب والصراعات التي تجري حاليا، سواء في أوكرانيا أو في منطقة الشرق الأوسط (خاصة في اليمن وليبيا وسوريا والسودان) هم الساسة الأمريكيون، الذين يُفترض أنهم مسؤولون عن اتخاذ القرارات السياسية المصيرية فيما يتعلق بالحرب والسلام. وبالطبع، فمن مصلحة هؤلاء استمرار الحروب لا إنهاؤها، وذلك من أجل ضمان استمرار الأرباح وارتفاع عوائد حساباتهم البنكية.
في خطاب الوداع الذي ألقاه بعد نهاية ولايته الرئاسية الثانية عام 1961، حذّر الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثون، دوايت إيزنهاور، من خطر ما أسماه “المجمع الصناعي العسكري” Military Industrial Complex (MIC) على عملية صنع السياسة في أميركا. وكان إيزنهاور يقصد التحذير من التأثير الكبير للوبي شركات تصنيع السلاح في الولايات المتحدة، الذي يهمين بشكل كبير على عملية صنع السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. ودعا إيزنهاور، وهو الجنرال الذي قاد الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، إلى وضع حد للتوسع غير المحدود في الصناعات العسكرية الأميركية، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. تحذير إيزنهاور كان بمثابة صرخة في البرية لم يستمع إليها أحد، ولم يُؤخذ تحذيره على محمل الجد. ولربما هو الرئيس الوحيد الذي تجرأ على التحذير علنا من ذلك الأخطبوط العسكري الذي يهيمن على السياسة في أميركا، ويلعب دورا مهما في اختيار الساسة وانتخابهم من خلال الأموال الهائلة التي يتم إنفاقها على حملاتهم الانتخابية، وبالتالي توجيه سياساتهم الداخلية والخارجية.
ما حذر منه إيزنهاور بات أمرا واقعا على مدار العقود السبعة الماضية، ونراه مع كل صفقة سلاح يتم توقيعها، سواء بين وزارة الدفاع الأميركية وشركات تصنيع السلاح من جهة، أو بين هذه الشركات وحلفاء الولايات المتحدة الخارجيين من جهة أخرى. ولذلك فليس غريبا أن تخوض أميركا عشرات الحروب والنزاعات في مختلف بقاع الأرض، من فيتنام إلى كوريا الجنوبية، مرورا بالعراق وأفغانستان وسوريا وليبيا وحاليا أوكرانيا؛ وأن يزدهر المجمع الصناعي العسكري، وينتفع رجاله وسماسرته من هذه الحروب والنزاعات. ويكفي فقط أن نشير إلى أن أرباح شركة “لوكهيد مارتن” العام الماضي فقط قد بلغت حوالي 65 مليار دولار، ومثلها بلغت أرباح شركة “رايثون” للسلاح.
بل وصل الأمر أحيانا إلى أن يحقق أعضاء الكونجرس الأميركي أرباحا هائلة ولو على حساب أرواح إخوتهم من الجنود الأميركيين أنفسهم، كما حدث في العراق وأفغانستان!. فعلى سبيل المثال، حققت شركات السلاح الأميركية، وكذلك المتعاقدون الخواصّ الذين استعانت بهم الولايات المتحدة في حروبها في كلا البلدين أرباحا خيالية على مدار العقدين الماضيين، خاصة بعدما أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من تريليوني دولار على كلا الحربين. وقد وصل الأمر بأحد أعضاء الكونجرس الأميركي، وهو النائب مايكل والتز عن الدائرة السادسة بولاية فلوريدا، إلى الهجوم على إدارة بايدن بسبب قرارها الانسحاب من أفغانستان الصيف الماضي، وذلك بعد أن كشفت تقارير صحافية بأن والتز من أكثر المستفيدين ماديا من استمرار الحرب في أفغانستان، حيث كان يمتلك عدة شركات تقدم خدمات لوجيستية واستخباراتية للجيش الأميركي هناك. ويشير تقرير نشره موقع “انترسبت” في أغسطس الماضي إلى أن أسهم شركات والتز حققت ما بين 5 إلى 25 مليون دولار عام 2019.

لم يعد سرا أن إدارة بايدن خصصت مليارات الدولارات من أجل تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. ولعلها أكبر مساعدات عسكرية تقدمها أميركا لدولة من خارج دول حلف الناتو منذ إنشائه قبل سبعين عاما.

أيضا ليس غريبا أن معظم بلدان الشرق الأوسط هي من أهم زبائن شركات السلاح الأميركية والأجنبية بشكل عام، وذلك في ظل الارتفاع الهائل في مشتريات السلاح خلال الأعوام الماضية. فعلى سبيل المثال، احتلت السعودية المرتبة الأولى في قائمة أكثر دول العالم شراء للسلاح تلتها الهند، وبعدها مصر التي حلت في المرتبة الثالثة، وذلك خلال الفترة بين عامي 2016-2022،  حسب تقرير معهد ستكهولوم لأبحاث السلام. وبالطبع ليس بالضرورة أن يتم استخدام كل هذه الأسلحة فعليا، فجزء مهم منها يدخل ضمن منطق “الصفقات السياسية”، التي تساعد في ضمان توفير الدعم السياسي والاستراتيجي للدول المستوردة للسلاح. ولذلك يحتفظ رؤساء ومديرو شركات السلاح العالمية بعلاقات جيدة ووطيدة مع معظم الساسة، سواء داخل أميركا أو خارجها.
ولم يعد سرا أن إدارة بايدن خصصت مليارات الدولارات من أجل تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. ولعلها أكبر مساعدات عسكرية تقدمها أميركا لدولة من خارج دول حلف الناتو منذ إنشائه قبل سبعين عاما. ولعل أكثر المستفيدين من هذه المساعدات ليسوا الأوكرانيين فقط، وإنما أيضا سماسرة وأمراء الحروب في أميركا، الذين يحققون أرباحا خيالية من وراء هذه الحرب؛ وسوف تمتلئ خزائنهم بمليارات الدولارات لسنوات، وربما لعقود قادمة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...