أمل دنقل: أمير شعراء الرفض الذي قال “لا تصالح” (1)

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 13 يناير, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 13 يناير, 2024

أمل دنقل: أمير شعراء الرفض الذي قال “لا تصالح” (1)

يقدم المقال سردًا مثيرًا لحياة الشاعر أمل دنقل من خلال سيرة زوجته عبلة الرويني، يكشف عن تفاصيل الحب والتضحية. يتناول التقييمات والرسائل، مؤكدًا جاذبية الأدب الذاتي

رحلة الشاعر والحب المتقاطع

عندما يصادفني مقطع شعر بصوت أمل دنقل، أكون على شفا البُكاء من رهافة صوت أمل وصدقه!

كنت طالبًا في كلية الآداب عندما اشتريتُ من باعة الكتب القديمة من رصيف شارع “طه الحكيم” ديوانه الكامل، لم يكن لديَّ إنترنت في المنزل لأبحث عن نسخة مُقرْصَنة من الكتب التي أودُّ قراءتها، اشتريتُ ديوانًا عليه اسم “أمل دنقل”، وأصدقكم القول: لم أكن أعرف، أَرَجلٌ الشاعر أم امرأة؟ ذهبت إلى البيت وقرأت، ونزلت دمعتي وأنا أقرأ الديوان، وسألت نفسي: مَن هذا الشاعر الذي تصيبك قشعريرة من صدقه؟ لقد مسَّ روحي، خصوصًا عباراته الأيقونية مثل: هي أشياء لا تُشترى!

يعجبني أمل حين يقول: “ضِدُّ منْ…؟ ومتى القلبُ -في الخَفَقَانِ- اطْمأَنْ؟”، أو في ساعة الروقان: “كأنَّ البنات الجميلات يمشينَ فوق الزبدْ!”، أو في وقت الملحمة: “مُعلَّقٌ أنا على مشانق الصباحْ”، أو في لحظات التمرد حين يقول: مَن قال “لا” في وجه مَن قالوا “نعم”، أو عندما يرثي الأصدقاء: “ليت أسماءَ تعرف أن أباها صعِدْ.. لم يمُتْ.. هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبَدْ؟ مات منتصبًا بينما ينحني القلب يبحث عما فَقَد”.. أو حين يستعيد ذكريات الطفولة وهو يقول: “هل أنا كنت طفلًا، أم أنَّ الذي كان طفلًا سواي؟”.. قرأت هذا البيت في غرفة بيتي بصوت مرتفع وأنا في الجامعة، فسمعت أمي ترد من صالة بيتنا: “كبرت على طول دون طفولة” بنبرة ساخرة.

يكتب أمل دنقل تاريخ المهمشين، ويحكي عن العمال فيقول: “ومن أقاصي الجنوب أتى عاملًا للبناء، كان يصعد سقّالة ويغني لهذا الفضاء”؛ ويقول: “هذا التساؤل عن لون عينين عاشقتين، كنافذتين على البحر، طعم القُبَل، بينما أنت من ظلمة العدم الآسنة، تتلقى النفايات تلو النفايات دون كلل، عاجزًا عن ملامسة الفرح العذب، عن أن تبُلَّ جناحك في مطر القلب، أن تتطهر بالرقة الفاتنة”.. كان أمل يبحث عن الفرح العذب ومطر القلب.

مرت الأعوام وذهبتُ إلى العُمرة، وكتبت على فيسبوك عبارة “الطريق إلى مكة”، يوم كان فيسبوك مقهى صغيرًا يجتمع فيه الناس، وليس بوابة مفتوحة عليه كل البشر؛ يومها قرأ منشوري الشاعر محمد عبد الباري ودعاني للإفطار معه في مكة، وذهبت إلى مقابلته ورأيت في يد محمد عبد الباري ديوان أمل دنقل في نسخة مهترئة من كثرة القراءة والتصفُّح.. وحدثني عبد الباري عن حبه لشعر أمل دنقل، ثم عزمني الشاعر على “البيك” حتى تكتمل عمرتي، وسعدت برؤية قصيدة لعبد الباري في ديوانه “مرثية النار الأولى”، أهداها لأمل دنقل بعنوان “الخارجي”، قال فيها عن أمل: “في النيل ما يكفي لآخر زَوْرقين…وفيك ما يكفي ليكتشف الصعاليكُ الطريق”.

وُلد أمل دنقل في قرية القلعة في محافظة قنا عام 1940، دخل كلية آداب عين شمس لكنه تركها بعد ثلاثة أشهر، ثم دخل كلية دار العلوم ليستمر بها يومًا واحدًا فقط.. أمل واحد من ثلاثة من الصَّحْب قدِموا إلى القاهرة من الصعيد مع سنوات الستينيات، خرجوا لغزو القاهرة أدبيًّا: الشاعر أمل دنقل، القاص يحيى الطاهر عبد الله، والشاعر عبد الرحمن الأبنودي. مرت الأعوام على أمل دنقل، وفي عام 1975م وجَّه إليه أحد الصحفيين سؤالًا عن معنى الشعر، توقف أمل دنقل عن مداعبة خصلة شعره الجانبية، وقال له: الشعر يا سيدي هو بديل الانتحار!

وعندما كنت أتصفح كتاب أحمد خالد توفيق “اللغز وراء السطور”، وقفت عند فقرة جميلة يحكي فيها توفيق عن نيته الاستقالة من كتابة الشعر لأنه اكتشف أمل دنقل، وأنقل نص الاستقالة الطريف، ومحبتي لأحمد خالد توفيق ليست لأنه كان بوابتي للقراءة مثل كثير من الشباب في جيلي، بل لسبب آخر، وهو أنه كاتب من الأقاليم من طنطا، وليس من المركز في القاهرة، وأنا ابن هذه الأقاليم، فهي محبة لبلدياتي؛ ورغم استقرار خالد توفيق في طنطا نجح في العثور على صوته الخاص، وجذب القراء إليه بعيدًا عن مركزية العاصمة، يقول أحمد خالد توفيق:

“طنطا في مايو 1989: السادة المحترمون هواة الشعر، أتقدم لكم بهذه الاستقالة المسببة، أُقرّ فيها أنني قد قررت ألا أكتب الشعر أبدًا إلا في ظروف معينة.. سبب هذه الاستقالة لا يعود لسوء معاملة، فأنتم قد أحسنتم استقبالي والاحتفاء بكل ما أكتبه، ولكنه عثوري على شاعر حقيقي، شاعر يحترق من أجل الكلمة، ويشيخ بضعة أعوام كلما كتب بيتين من الشعر، وهذا الشاعر الذي علمني معنى لفظة شاعر فعلًا هو أمل دنقل… ولهذا كان بوسعي أن استمر في كتابة الشعر وأتناسى هذا الوحش المرعب القادم من الصعيد، لكن لنقُل بصراحة، إن أمل دنقل قال كل ما أردت قوله بشكل أعمق وأشجع وأروع”. انتهى حديث توفيق عن استقالته من عالم الشعر.

أحببت الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل، وطفقت أبحث عن سيرة ذاتية للشاعر مثل سيرة الشاعر محمد عفيفي مطر، التي كتبها بعنوان “أوائل زيارات الدهشة: هوامش التكوين”، وهي مذكرات تخص سنوات طفولة الشاعر، مكتوبة بقلم أدبي راقٍ ولقطات جميلة من حياته وتكوينه الثقافي، وفيها يحكي كيف كان يبحث عن دواوين محمود حسن إسماعيل ويسير المسافات ليحصل على نسخة من قصيدة له.

 لم يكتب أمل دنقل سيرة مثل رسول حمزاتوف في كتابه الباهر “بلدي”، الذي حكى فيه عن بلده داغستان، وكم تعجبني قصص حمزاتوف عن نفسه، مثل تلك القصة عند زيارة حمزاتوف إلى كوبا وتقديمه هدية للزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وهي سُترة صوفية من فلكلور داغستان.. وضعها كاسترو عليه ثم سأل رسول حمزاتوف: لماذا لا توجد عليها أزرار؟  أجاب الشاعر: لكي يكون خلعها عن الكتفين سهلًا عند لقاء العدو، ونقلها بسهولة إلى كِتفَي المرأة الحبيبة عند لقائها.

وقد بحثت عن سيرة لحياة شاعرنا، وقرأت كتاب “الجنوبي” لعبلة الرويني.

المرواني

تُعيننا صورة أمل في مذكرات أبناء جيله على تصور شخصيته، فقد بحثت كثيرًا عن كتاب “النميمة: نبلاء وأوباش ومساكين” إلى أن حصلت عليه، العنوان مختلف، والكاتب سليمان فياض حاول أن يقدم صورة قلمية لحياة شلة أدباء الستينيات بصراحة وبوصف يضعك في الجو الأدبي، حكايات عن أمل دنقل وغرور يوسف إدريس ودماثة خلق يحيى حقي، والأهم هو حكايات فياض عن مطبخ الكتابة وتفاصيل النبلاء والأوباش.

وقفت عند الفصل الذي حكى فيه فياض عن أمل دنقل، كانت بداية اللقاء بين فياض وأمل دنقل عام 1962، عرَّفه به عزّ الدين نجيب، كان عز وقتها يعمل مديرًا لقصر ثقافة الأنفوشي، قال له عِزّ: “سأعرِّفك بصديق جديد عليّ وعليك، عرفته هنا في الإسكندرية، وهو عاشق للشعر، يحفظ عيونه القديمة والحديثة عن ظهر قلب، وربما أصبح شاعرًا، فالشعر في دمه وروحه”.

كان أمل وافدًا حديثا إلى الإسكندرية، نُقل إلى جمرك مينائها من جمرك ميناء السويس، وحين رآه فياض، رأى صعيديًّا جافّ العود، له عينان واسعتان تبدوان في وجهه الضامر مسفوط الخدين كجوهرتين على شكل عينين تحب أن تراهما، وتغض الطرف عنهما سريعًا، فهما ترقبانك، وتقولان لك: “كن على حذر معي، لا تتباسط، وفي ما عدا ذلك خذ راحتك”.

سار أمل مع سليمان فياض تحت مطر الإسكندرية، كان الرذاذ خفيفًا، وفتح سليمان مظلته، لتحميهما من قطرات المطر، لكن أمل أبعدها من فوق ناحية فياض قائلًا له: “أحب المطر، أحب أن يغسل وجهي، ويغرق شعري ورأسي، في الصعيد نتمنى قطرة منه، وهو هنا في هذه المدينة مُباح، حتى للبحر الفسيح المليء بالماء، وتظل الرمال عطشى بطول الصحراء”.

كنت أقرأ هذا الوصف وتطوف في بالي صورة المدينة في شعر أمل دنقل، وعينه الثاقبة التي ترى الفروق في حياة المدن الحديثة، وهو القادم من ريف الصعيد، حيث يقول أمل في ديوانه “مقتل القمر”: “الناس هنا ــ في المدن الكبرى، ساعات: لا تتخلف، لا تتوقف، لا تتصرف.. آلات، آلات، آلات”.

تقابل فياض مع شاعرنا في لحظة كان أمل فيها يبحث عن ذاته الأدبية، لم يكن يعرف نفسه بعد، ولا يعرف ماذا سيكون، كان رجلًا يحب الأدب ويحب الشعر خصوصًا، ويحب ترديده لنفسه، وأحيانًا بصوت مرتفع، وحيدًا يردد أبيات بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ومحمود حسن إسماعيل، والجواهري الذي يصفه بـ”عمه”، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ويطلق على حجازي وصف “الفارس الطاووس”، كان أمل يحفظ كثيرًا من شعر حجازي، كما قال لفياض.

سأله فياض: كيف تصف حجازي بالطاووس وأنت لم تره بعد؟ فقال أمل: “شعره يقول لي ذلك، كل شعر يقول لي صفة مميزة لقائله، ليس لشكله، ولكن لطبيعته، شعر صلاح عبد الصبور مثلًا يقول إنه كائن متوحّد، شعر محمود حسن إسماعيل يقول إنه شاعر يناطح بشعره الكون نفسه، ابن النخيلة هذا صعيدي ممتلئ بالكبرياء! وضحك أمل وقال: الكلام أيضًا مثل آثار الأقدام، هذه تدل على صاحبها، وهو يدل على قائله”.. أخذ أمل يقرأ الشعر، والمطرُ لا يزال ينزل برتابة، وراح يلقي بأداء موقَّع، بصوت هادئ، أشعارًا تلو أشعار، كانت كلها لشاعره الأثير حجازي من ديوانه “مدينة بلا قلب”. خاف أمل من الزواج والاغتراب، كان مؤمنًا بالتمحور حول الشعر فقط.

 بعد مدة رأى فياض عز الدين الذي عرّفه بأمل، وسأله فياض: هل تراه؟ وراح عز يشكو من أمل دنقل، ومجمل شكواه هي قسوة أمل في “التريقة” والسخرية بالغير، وبه هو شخصيًا، وهو الذي عرَّفه بالإسكندرية، وهو الذي صحبه إلى منتديات الأدباء. بعد ذلك تقابل فياض مع أمل دنقل على مقهى ريش، يجلسان إلى المقهى يتداولان أخبار النميمة الأدبية والسياسية مع الرفاق، ينقل لنا فياض صورة الشاعر أمل في حياته كل مساء، حيث يفِد إلى مقهى ريش قبيل الغروب، مستحمًّا، حليق الذهن، ومعه كومة من صحف الصباح والمساء والمجلات اللبنانية، يحتسي فنجان قهوته، وفي يده قلم رصاص، مُنكبًّا بنظره ورأسه على حل الكلمات المتقاطعة بالصحف والمجلات، يفك فوازيرها كلها، بسرعة ومهارة، ولم يسأله فياض: من أين تأتي بالمال؟ لأن “أمل” واحد من الذين يحبون أن يحتفظوا بخصوصياتهم، لا يشكون، ولا يتباكون، ولا يتباهون.

نبغ أمل فجأة دون مقدمات، وراح فياض يرقب الشاعر فيه وكيف تُولد قصيدة له، رأى فياض عجبًا من العجب، كان أمل يكتب كلمة أو يشطب كلمة، أو يكتب سطرًا أو يشطب آخر، على ورقة مطبقة بالطول، وهو يتحدث معهم، وعقله في الوقت نفسه غائب عمن حوله، وروحه يرتعد لها جسده، ويضطرب فَكّاه، وتصطك أسنانه، كمن يرتجف بردًا، أو يضطرم غيظًا، ويظل على هذه الحالة أيامًا، كأنه واحد من هؤلاء الشعراء الحَوْليين، أو نحات يشكل تحفته من المرمر.

وربما تتفجر القصيدة في يد أمل دفقة واحدة، هذا ما يحكيه فياض عن ولادة قصيدة، حدث ذلك يوم كتب أمل قصيدته “الكعكة الحجرية”، وميدان التحرير يغلي بالطلاب الغاضبين، في ثورة المثقفين عام 1972، ويومها نُسخت القصيدة الرائعة بيد تلو أخرى، وطارت قصيدة “الكعكة الحجرية” إلى الغضاب في ميدان التحرير، فعلت بها أصواتهم كأنها نشيد، هل من مجد أكبر من ذلك لشاعر يسمع الناس صوته في الميادين؟

يقول أمل دنقل في هذه القصيدة:

أيُّها الواقفون على حافَة المذبحة

أَشْهِروا الأسلحة!

سقطَ الموتُ، وانفرط القلبُ كالمسبَحَة

والدّمُ انساب فوق الوشاحْ!

وعلى الرغم من حرارة شعر أمل وجماله الأخَّاذ، يتضح لنا طبيعته المشاكسة وسرعة أحكامه على الوسط الثقافي.. يحكي عبد الوهاب المسيري في سيرته الذاتية “رحلتي الفكرية” أنه قابل أمل دنقل عدة مرات، وكان أمل يرفض أن يحييه كلما تقابلا دون سبب واضح، إذ إن المسيري لم يُسِئ إليه قط، بل ولم يكن يعرفه، ولكن المسيري فوجئ به ذات مرة يحييه بحرارة بالغة، وقال له أمل إنه كان يظن أنه عميل أمريكي لأنه تعلَّم في الولايات المتحدة، أما وقد شارك المسيري في مظاهرات الطلبة عام 1971، ووقَّع المسيري وزوجته البيان الذي كتبه الدكتور فؤاد زكريا، مؤيدًا الطلبة ومطالبًا بإنهاء حالة الـ”لاحرب ولا سلم”، فقد انتفت عن المسيري صفة العمالة، وقد تعجب المسيري للغاية من سطحية هذا الموقف، فلا التعليم في الولايات المتحدة يجعل من المرء عميلًا، ولا الاشتراك في مظاهرات الطلبة ينفي عنه هذه الصفة.

وفي لحظة صفو، تحدَّث أمل دنقل مع سليمان فياض عن سلالته العربية المجيدة، فقد قال له إنه حفيد لأحفاد من بني أمية، وقال له: أنا مرواني لا يزيدي، وأعظمهم عبد الملك بن مروان.. ويلفت فياض النظر إلى أنه من الضروري أن يربط الناقد بين نزعة دنقل العروبية والقومية وبين شعوره بنسبه العربي، خصوصًا في قصيدة “زرقاء اليمامة”، وعندما فجَّر قنبلته الشعرية المدوية “لا تصالح”.

لن يغيب أبدًا مشهد أمل دنقل المهيب عن ذاكرة سليمان فياض، حيث رآه في مسرح السلام، وهو يلقي قصيدته “لا تصالح” في مهرجان للإبداع أقامته وزارة الثقافة، نهض أمل متشحًا بعباءة سوداء، أبى أن يسنده أحد، ومشى متحاملًا حتى وصل إلى الميكروفون، بدا داخل عباءته الفضفاضة ضعيف البدن، أكثر هزالًا، مُصفَرّ الوجه، شديد الشحوب، وراح يلقي قصيدته؛ وليلتها ساد الصمت لمشهده المهيب، وصوته القوي، ثم دوّت القاعة بالتصفيق، وقد هبّ الناس وقوفًا، فلم يستطع أحد أن يراه، أو يرى ابتسامته الشاحبة، سوى مَن كانوا في الصف الأول من الواقفين. ويعلق فياض أن اثنين فقط حمل الديوان الأخير لكل منهما، وهو في سنوات المرض، قصائد الموت.. أمل دنقل وبدر شاكر السياب.

الجنوبي

لفت نظري غلاف كتاب “الجنوبي” وعليه صورة أمل دنقل، وهو سيرة كتبتها أرملته الكاتبة عبلة الرويني، ومذكرات الزوجات عن رفقاء الحياة نوع يستهويني في دنيا المذكرات، فقد كتبت في كتابي “مودة الغرباء” عن سيرة إحسان الدروبي عن زوجها المترجم والسفير سامي الدروبي، وأصبح من عادتي اكتشاف هذا النوع من المذكرات، الذي تكشف فيه الزوجة عن حياة الفنان وعالمه الخاص. و”الجنوبي” واحدة من سير الزوجات، يمكن أن توضع بجانب كثير من مذكرات الزوجات، مثل مذكرات زوجة جورج طرابيشي، وما كتبته عائشة عبد الرحمن عن أمين الخولي في سيرة بعنوان “على الجسر بين الحياة والموت”، وهذا نوع موجود في الأدب العالمي، مثل مذكرات صوفيا زوجة تولستوي ومذكرات زوجة الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي؛ والشاهد أنه نوع أدبي جدير بالدراسة والتأمل والتفكير في شهادات الزوجات عن رفقاء الحياة، ومرت عليه الكاتبة ملاك الجهني في كتابها الأخير “عين تراقب العصفور”.

عُدت إلى كتاب “الجنوبي”، الذي قال عنه ياسر عبد اللطيف في كتابه “في الإقامة والترحال”: “عندما دخلت الجامعة في خريف عام 1987، كان الطلبة المشغولون بالأدب، والمتثاقفون، لا يشاهَدون إلا وهم متأبطين كتابَين لا ثالث لهما: الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل، وكتاب الجنوبي لأرملة الشاعر الكاتبة عبلة الرويني، التي تحكي فيه قصة حبهما وزواجهما، ثم مرض الشاعر ورحلة تدهوره، فموته”.

استوقفني في “الجنوبي” رسائله الرقيقة إلى زوجته عبلة الرويني: “لو لم أكن أحبك كثيرًا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة؛ تقولين دائمًا عني ما أدهش كثيرًا عند سماعه، أحيانًا أنا ماكر، وأحيانًا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معكِ، لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، ربما كنت محتاجًا إلى استخدام المهارات الصغيرة معك في بداية العلاقة، لأنني كنت أريد أن أفهمك بحيث لا أفقدك، أما الآن فإنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء.”

لقد وصفَت عبلة في كتابها كيف تعرّفت إلى أمل، وحاولت أن تحلل شخصية الشاعر؛ وقد قرأتُ تعليقًا للأستاذ فهد الجريوي على هذه السيرة يقول: “مَن أحب أن يرى شاهدًا لمقولة الحب أعمى فليقرأ هذه السيرة التي كتبتها زوجته”، وهو تعليق دقيق، إذ برّرت عبلة مواقف حياة أمل التي اتسمت بالصدام مع الآخرين والصراحة إلى حدّ الوقاحة، وتمنيت عندما قرأت تعليق الجريوي لو كان زاد تعليقاته الذاتية على المقاطع والمنتخبات من السير الذاتية في كتابه الجميل “الظل والحرور”.

ومع ذلك نرى موقفًا نقديًّا من شعر أمل دنقل، حين تعرض الأستاذ عبد الله الهدلق للحديث عن سيرة الجنوبي، فكتب:

ليس يتجلّد العبد على ربَّه.. هذا الشاعر المتمرّد أمل دنقل، وكان ملأ شوارع القاهرة كفرًا وسُكرًا وعربدة، حتى قال يثني على الشيطان أبياته الرجيمة:

المجدُ للشيطان معبودِ الرياح

مَن قال “لا” في وجه مَن قالوا “نعم”..

هذا المسكين الذي طغَى لما: “أن رآه استغنى”، تقول عنه زوجته عبلة الرويني في كتابها “الجنوبي” يوم أصيب بالسرطان: “كانت الجراحة الأولى تعني لدينا الرعب الشديد، فهذه هي المرة الأولى التي نقف فيها في مواجهة السرطان”. وأنا أسير بجوار التروللي (النقالة) الذي يحمل أمل إلى غرفة العمليات سمعتْه عبلة يتمتم بالشهادة: “أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.. ضحكتْ عبلة وقالت: أمل، لقد ضبطتك متلبسًا بالإيمان! ابتسم في هدوء مردّدًا في همس خافت: أخشى ألا يؤثر فيَّ البنج. يقول الهدلق: نسِي في كربته معبود الرياح الذي قال: لا، وتمتم ذليلًا لربِّه: أن نعم، فالمجد لله.

تصف عبلة الرويني شخصية أمل العاطفية، فقد كانت تريد من مشاعره كثيرًا من الكلام، وكثيرًا من الانفعال، وكثيرًا من النار وكثيرًا من الحرائق، وكان يمنحها مشاعر عميقة يرفض تأكيدها بالألفاظ، كان يريد من مشاعرها مزيدًا من الهدوء، مزيدًا من السكينة، من أجل لحظة اطمئنان واحدة لم يعرفها طوال حياته، وكانت تمنحه انفعالات مستمرة وتوترًا عاطفيًّا لا يعطي استقرارًا، ولا تدرى عبلة سرّ هذا التناقض الدائم، ففي داخلها مهرجان للفرح قائم ومع ذلك يُشجيها شعور الحزن، بينما يكمن في أعماق أمل حزن لا ينتهي، ومع ذلك فهو قادر دائمًا على إحداث الفرحة والبهجة، كان كل منهما يبحث عن شيء يفتقده.

وكانت مشاعرهما، رغم صدقها القوى، في صدام مستمر، ولا تدري عبلة في سيرته لماذا كانت دائمة الاستفزاز له بتشويه سمعة قلبها، برسم صورة جافة له، ولعل ذلك كان في ظنها نوعًا من منازلته بمثل أسلوب تعامله معها، فهو لا يستطيع الإفصاح عن مشاعره والتعبير عنها، بل كان هو الذي يخفيها دائمًا، وكأنها منطقة ضعفه الوحيدة، والمفارقة أن الشاعر أمل لا يجيد عبارات الغزل والإطراء، إن أقصى ما يستطيع التعبير عنه (وجهك رومانتيكي)، فترد عبلة بالقول: تقصد ساذج! ويغضب أمل بالفعل من سوء ظنها، ويقول: أقصد أنه جميل!

تعطيني عبلة وصفة لنفسية دنقل فتقول: “كان أمل يلقي بالكلمات جانبًا، ويطالبك بالفهم والإحساس بعمق مشاعره الداخلية، حتى وإن لم يُفصح عنها، إنه يطالبك دائمًا بأن يسكن قلبك عميقًا حتى تستطيع أن ترى جيدًا قلبه. كان قليل الإفصاح عن مشاعره، بينما كنتُ شديدة الإفصاح عنها، والتعبير بالأشكال كافة -رغم محاولات المكابرة- أنا التي أطلب لقاءه”.

أظن هذا سبب نجاح سيرة “الجنوبي”، تشريحها حالة الحب القلِق وشخصية أمل بصراحة وبجرأة، وكتابة تفاصيل حياتهما بين المد والجزْر، تحكي عبلة أن أمل كان مغرمًا بإهدائها كتب الشعر، أغلى ما يمكن إهداؤه، فقد أهداها طبعة أنيقة للغاية مجلدة بالحرير من الموشَّحات الأندلسية، مؤكدًا لها أنه هكذا يجب نشر الشعر، مرة واحدة فقط وقبل الزواج أهداها خاتمًا ذهبيًّا رقيقًا على صورة قلب، وعندما سألته عن سبب الهدية، ضحك قائلًا: بلا أسباب، فلربما إذا انتظرتُ الأسباب لا أملك تقديم هدية لك.. إنني لا ألتقي والضرورة أبدًا”.

كتب أمل نسخة خطّية من ديوانه “العهد الآتي” وكتب لها إهداءً قائلًا: “إلى الآنسة عبلة الرويني، كان من الممكن أن تكون صديقتي، لكن عنادها حطم هذا الاحتمال. أرجو أن يكون هذا الكتاب عند حسن ظنها، مع تقديري لشاعريتها”.

نقلت عبلة الرويني عبارة كتبها أمل دنقل عن صديقه المثّال عوني هيكل، فخالته يكتب عن نفسه، قال أمل له: “دائمًا الخوف من أن يكتشف الآخرون كم أنت رقيق فيدوسونك بسَنَابِكهم”، لم تنتهِ حكايات أمل دنقل، الشاعر المتصعلِك في المدينة.. إلى حديث يتجدد الأسبوع القادم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...