أميركا وإسرائيل وبينهما غزة

بواسطة | أكتوبر 17, 2023

بواسطة | أكتوبر 17, 2023

أميركا وإسرائيل وبينهما غزة

في المواقف والمحكّات التاريخية عبارات لا تُنسى، وهي تُكتب وتُقال بعناية من أجل ترك أثر كبير في نفس السامع والمتلقي؛ ومن تلك العبارات ما قاله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أثناء زيارته لإسرائيل في الثاني عشر من أكتوبر الجاري حيث قال: “لم آت إلى إسرائيل كوزير لخارجية الولايات المتحدة فقط، ولكن كيهودي فرّ جده من القتل”. عبارة بلينكن تلخص الموقف الأمريكي مما يجري حالياً في فلسطين، وهي ليست مجرد عبارة عاطفية تحاول مواساة إسرائيل في مصيبتها الكبرى، التي وقعت في السابع من أكتوبر الماضي حين هاجمتها المقاومة الفلسطينية بشكل كبير ومفاجئ، ولكن هي أيضا سياسة أميركية ممنهجة وثابتة تكاد تتماهي مع السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين؛ وهي أيضا تكشف أن الصراع الدائر حالياً في فلسطين ليس مجرد صراع سياسي أو عسكري فحسب، وإنما هو أيضا صراع عقائدي ووجودي تؤدي فيه الولايات المتحدة دورا مركزيا، ولعل ذلك يفسر جزءا كبيرا من الموقف الأمريكي الحالي تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة.
لذلك، فليس من قبيل المبالغة القول إن الولايات المتحدة هي شريك أساسي في هذه الحرب التي أودت بحياة أكثر من 2500 شهيد وما يقرب من عشرة آلاف مصاب على الأقل حتى الآن، وهي حصيلة سوف تزداد بعد قراءة هذا المقال؛ والشراكة هنا لا يقتصر دورها على التصريحات والدعم النفسي والمعنوي، بل يتجاوز ذلك إلى دعم لوجستي واستخباراتي وتمويل عسكري مباشر لم يبدأ اليوم فقط، بل كان منذ عقود طويلة؛ فالمساعدات الأمريكية لإسرائيل منذ قيامها عام 1948 وحتى الآن وصلت إلى أكثر من 250 مليار دولار، ثم إن إسرائيل هي أكبر متلقٍ للمعونة العسكرية الأميركية في العالم، إذ يصلها حوالي 3.8 مليار دولار سنويا، نصف مليار منها يذهب لتطوير البرنامج الصاروخي الإسرائيلي؛ كما أن أميركا ملتزمة قانونيا بضمان التفوق العسكري لإسرائيل على كل جيرانها العرب، وتمنحها واشنطن باستمرار أفضل أنواع الأسلحة التي لا يُسمح بها لبقية جيرانها.
الأهم من ذلك، أن أميركا ملتزمة بتقديم كافة أنواع الدعم العسكري لإسرائيل خلال الأزمات والطوارئ، وهو ما رأيناه بشكل واضح خلال الأزمة الحالية؛ فمنذ بدايتها قامت واشنطن بتحريك حاملة الطائرات الأمريكية (يو إس إس جيرالد فورد)، وهي أكبر حاملة طائرات هجومية في العالم، إلى شواطئ إسرائيل على البحر المتوسط من أجل دعم إسرائيل في حربها الحالية على غزة وردع الأطراف الإقليمية، خاصة إيران وحزب الله، من الدخول على خط الأزمة، وهو ما تحقق نسبيا حتى الآن؛ بل إنها سمحت لتل أبيب بالحصول على الذخيرة اللازمة لها، عبر اللجوء لمخازن الأسلحة الأمريكية الموجودة في تل أبيب منذ عقود، وهي التي تُستخدم في حالة الطوارئ فقط.
ولكن السؤال المهم الآن هو: لماذا تقوم واشنطن بتقديم هذا الدعم الهائل لإسرائيل في حربها الحالية على غزة؟ وبعيداً عن الأسباب التاريخية، فإن موقف إدارة بايدن من الأزمة الحالية يرتبط بعدد من المحددات والأسباب.
أول هذه الأسباب سعي بايدن لاستغلال ما يجري وتوظيفه سياسيا في حملته الانتخابية وهي على وشك أن تبدأ؛ فبايدن يعاني وضعا انتخابيا صعبا، خاصة في ظل تزايد الأصوات التي ترفض ترشحه لولاية ثانية بسبب كبر سنه وضعف أدائه السياسي والاقتصادي، وهو هنا يغازل شريحتين مهمتين في ما يخص الانتخابات الرئاسية المقبلة، أولاهما شريحة اليمين الديني والسياسي المتشدد في أميركا، التي تدعم إسرائيل بشكل كبير لأسباب دينية وعقائدية، وهي الشريحة الأكثر قربا للرئيس السابق دونالد ترامب، الخصم اللدود لبايدن ومنافسه الرئيس في الانتخابات المقبلة؛ أما الشريحة الثانية فهي شريحة الصوت اليهودي، وهو صوت مهم ومؤثر في الانتخابات الأمريكية بسبب الدور السياسي للوبي الصهيوني.
ثانيا، تحاول إدارة بايدن ترميم صورتها باعتبارها حليفا موثوقا يمكن الاعتماد عليه، خاصة في ظل الحديث المتواصل عن الانسحاب الأميركي من المنطقة بسبب الانشغال بالصراع مع الصين وروسيا؛ ولذلك فقد قدمت واشنطن كافة أنواع الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي لإسرائيل حتى الآن، وذلك رغم التحفظات التي كانت تبديها إدارة بايدن على حكومة نتانياهو المتطرفة.
ثالثا، تخشى الولايات المتحدة من اتساع جبهة الحرب ودخول أطراف إقليمية أخرى، وهو ما يعني من جهة تشتيت جهود إسرائيل في حربها على المقاومة الفلسطينية في غزة، ومن جهة ثانية تورط الولايات المتحدة في الحرب، وهذا بدوره يعني احتمال إرسال قوات للانخراط بها، وبالتالي زيادة التكلفة السياسية والانتخابية لبايدن.
رابعا، تحاول واشنطن عدم إعطاء الفرصة لأية قوى دولية، مثل روسيا والصين، لاستغلال الموقف لصالحها والدخول على خط الأزمة، وهو ما يعني زيادة دورها في المنطقة على حساب الدور الأميركي. وقد رأينا كيف نجحت الصين في ممارسة دور مهم بتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران في مارس الماضي وهو ما تتحسب له واشنطن.
ولكن الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل في حربها الراهنة على غزة، من شأنه تقويض المصالح الأمريكية في المنطقة بشكل كبير خاصة على المدى الطويل؛ فمن جهة فإن استمرار القتل الجماعي الذي تقوم به إسرائيل ضد سكان غزة من شأنه زيادة الكراهية للولايات المتحدة في الشارع العربي، خاصة بعد محاولة الولايات المتحدة تحسين صورتها طيلة العقد الماضي بعد انسحابها من العراق؛ ومن جهة ثانية فإن هذا الدعم يعني اتساع فرص تورط الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة إذا ما دخلت أطراف إقليمية أخرى على خط المواجهة لدعم المقاومة الفلسطينية، وهو ما يعني احتمال وقوع خسائر عسكرية وبشرية أميركية لن يتحملها أحد؛ ومن جهة ثالثة فإن هذا التماهي الأمريكي مع إسرائيل من شأنه أن يغري الصين بطرح نفسها كوسيط محايد ونزيه في الصراع، وذلك على حساب الدور الأميركي. وأخيراً، فإن ثمة مخاوف حقيقية من أن يؤدي الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل إلى توتر واحتقان الشارع العربي والمسلم في أميركا، ما يعني إمكانية تعرض السلم الأهلي للخطر، وهو ما حدث بالفعل خلال اليومين الماضيين حين قام عجوز أميركي بقتل طفل أميركي من أصل فلسطيني لم يتجاوز السادسة من عمره طعناً، وذلك في ولاية شيكاغو الأمريكية.
باختصار، فإن ما تفعله إسرائيل حاليا في غزة من تدمير وقتل وارتكاب جرائم حرب، وفي ظل دعم أميركي غير محدود، سوف يرتد على أميركا بكثير من المصائب والكوارث سواء في المنطقة أو خارجها، وإن غداً لناظره قريب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...