أمين نخلة.. رئيس جمهورية الآداب الرقيقة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 25 مايو, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 25 مايو, 2024
أمين نخلة.. رئيس جمهورية الآداب الرقيقة
حدَّثت صديقي هاني حطب عن جمال نثر أمين نخلة، فشرع مقلدًا صوت سعيد عقل في حوار تليفزيوني يقول فيه إن أمين نخلة “يكتب بأناقة”.
وهاني باحثٌ في الفلسفة، وخبرته المهنية في الإعلام السياسي تحديدًا، وهو “حِلْسُ” كُتُبٍ ومُقْتنٍ بارعٌ للعناوين، يتابعها بشغف؛ وإحدى الفقرات الأسبوعية معه عندما نلتقي في ممر العمل، تبادل الجديد في عناوين الكتب والإصدارات، كأني أمام مجلة ثقافية ترصد كل ما يخرج من المطابع.
وأنا أتهرَّب من جديد كتب الفلسفة التي لا أقرأ فيها، سائرًا على مذهب إبراهيم عبد القادر المازني، فهو كاتب متواضع لا يخجل من إعلان عدم فهمه فلسفة التاريخ لهيجل، فيقول: “هؤلاء الألمان يتفلسفون علينا بما لا نفهم، ماذا يريدون أن يقولوا، عجيبٌ أمرُهم والله، قرأتُ هيجل فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما إني أنا حمار، وإما هذا الرجل لا يُحسن العبارة عما في رأسه، ولكني أفهم غيره، فلماذا لا أفهم عنه؟!”.
لذلك أتجنَّب الحديث عن “هايدجر” و”هوسرل” وكل الفلاسفة الألمان مع هاني، خوفًا من تهمة “الحُمُورية”، لكننا نلتقي في حب التاريخ وكتب الشخصيات، وهو مُغرَم باقتناء الطبعات الأنيقة، وقد يشتري من الكتاب أكثر من طبعة، مثلما فعل مع كتاب سهيل القش “في البدء كانت الممانعة”، لديه الطبعة الأولى ثم اشترى طبعة دار مدارات الجديدة.
أعود إلى الحديث عن الكاتب “الأنيق” أمين نخلة، فقد أحببت قراءة كتبه، هروبًا من ثِقل ظلّ المذكرات السياسية.
وُلد أمين نخلة في شهر مايو/ أيار 1901 في “مجدل معوش”، ودرس في المعاهد اللبنانية إلى أن ظفر بدرجة الليسانس في الحقوق من بيروت، وكان نخلة شخصية مرموقة، جمع بين المحاماة والصحافة والسياسة وعضوية البرلمان، ولم يكتب سيرة ذاتية، بل وزّع قصصًا من حياته متفرقة في ثنايا كتبه وبين نثره، كما في كتابه “في الهواء الطلق” وفي “مفكرة مسافر”.
وكان والده – رشيد نخلة- زجالًا لبنانيًّا مشهورًا، ألَّف كلمات النشيد الوطني اللبناني، وبعد وفاته قررت الدولة بناء ضريح له، فكتب الأديب مارون عبود مشاكسًا: “جميلٌ تشييد ضريح لأمير الزَّجَل رشيد نخلة، وهو جدير بهذا، ولكنّني أُقسم ألف يمين أنه ما كان يفوز بثمن بلاطة توضع على قبره باسم لبنان لو لم يكن ابنه نائبًا في البرلمان”.
أمين نخلة وأمير الشعراء أحمد شوقي
يحكي لنا أمين عن حياته بين الشعراء والأدباء، فقد كان يرى أمير الشعراء أحمد شوقي في أثناء تنزُّهه في بيروت، ومعه صديقه محجوب ثابت، وأتى ذِكْر نقد العقَّاد الحاد لشعر شوقي، وقال محجوب: “هنيئًا للعقاد”!. غضب شوقي، وهو بادي العجب، وقال: هنيئًا له؟! فردَّ محجوب: إي والله، هنيئًا له، فسوف يذكره التاريخ ويشتهر بأنه هذا الذي كان يكره شوقي! ففرح شوقي من حُسن جواب محجوب.
وقد نقل أمين نخلة في دفتر الغزل أبياتًا قالها فيه الشاعر أحمد شوقي:
هــذا ولـيٌّ لــعـهــدي وقـيِّـم الشــعـر بعـدي
فكلُّ مَـن قـال شـعـرًا في الناس عبـدٌ لعَبْدي
لكنه تعرض للنقد من عديد من الأدباء، واتَّهموه بانتحال هذه الأبيات على لسان شوقي، إذ لم تظهر هذه الأبيات في “الشوقيات”، أو “الشوقيات المجهولة” التي نشرها محمد صبري السوربوني، ولعل أمين نخلة وضعها على لسان شوقي، والسبب – كما يقول وديع فلسطين- ولع نخلة بصحبة الملوك ولو على الورق، وقد تساءل مارون عبود: “تُرى مَن قال لشوقي إننا نعترف بولايته حتى ينصّبَ وليّ عهْد؟ فكل شيء يُورث إلا العلم، ومتى كان الشعر وقْفَ ذريةٍ حتى نجعل له قيِّمًا؟”.
على أن كامل الشناوي يقول عن ولاية أحمد شوقي للشعر، أن شوقي قد فرح بهذه المبايعة، فمِن عيوبه – حسب الشناوي- أنه “كان مولعًا بالقشور، يحب الثناء ويخاف من النقد، ويستهويه إطراء شعره، وتلقيبه بأمير الشعراء، ومناداته بـ (يا باشا)! وهي عيوب بيضاء، قد تنال منه إنسانًا، ولكنها لن تنال منه شاعرًا عظيمًا عبقريًّا!”.
أما أبياته التي قال فيها عن أمين نخلة “هذا ولي لعهدي”، فيُخَيَّل إلى الشناوي أنه أراد أن يداعب بها أمين نخلة، ومَن يدري، لعل أمين نخلة هو الذي أراد أن يداعب القرَّاء!
وحساسية أمين نخلة نحو الكلمة الجميلة تتجلَّى في التقاطه حديث تلميذة بيروتيَّة، في ربيع عمرها، إلى صاحبةٍ لها، وهما تعبران شارع أحمد شوقي في بيروت؛ إذ قالت التلميذة لصاحبتها: “ما عبرتُ مرة هذا الشارع إلا تذكرتُ قول شوقي في مرثيته لبعض القادة المغاوير في الحروب البلقانية:
وكان إذا خـاض الأَسِـنَّـة والظُّـبى تنحَّت إِلى أَن يَعبُر الفارِس الكَمي
وميّز شعر أمين نخلة أن تسميات الطرق لها من الأثر في قلوب السابلة شيء كثير، ويحكي أنه سمع الشاعر حافظ إبراهيم يقول في حديث له، في دمشق: “لو أن بشار قال بيته المشهور: (كان لي صاحب، فأودى به الدهر وفارقته، عليه السلام) في مَقام تقطُّع المودّات، لا في مقام البكاء على صديق لقي أجلَه، لكان البيت أعلى وأحلى كثيرًا”.
هكذا تمدّنا كتب أمين نخلة بوصف لبيروت ولبنان ومن زارها من الأدباء مثل أحمد شوقي، وأحاديثه معهم.
أين فصاحة الطَّليان؟
يحكي أمين نخلة أنه ذات يوم وهُم جلوس على سطح مقهى “الميرامار” في بيروت، والوقت صيف، والشمس إلى الغروب، والبحر ينبسط انبساطه إلى آخر مد النظر، وبين البحر والسماء، حيث يمس الشفق الزرقة، لمعات للنهار المودّع، تأخذها أحضان الأفق عناقًا وضمًّا، وتحرك أحد الأدباء في كرسيّه وقد أفاض المشهد ذات صدره، فأخذ يذكر كلامًا لبعض شعراء الإيطاليين في وصف غروب المدينة، ومن أطيب ما جاء فيه ما معناه: “إنَّ المساء يرى دمَه مسفوكًا على الجدران العالية”.
وكان الأستاذ الأخطل الصغير حاضرًا يسمع، ويخبرنا نخلة أنه لا يعرف في زمانه من يتتبع في فيه مذاق الكلام تتبُّعَ مذاق الطعام والشراب كالأخطل الصغير، فقال الأخطل لصاحبهم: أمسك، يا رعاك الله، عن فصاحة الطليان! فأين أنت من كلام أبي سعيد الخدري في رواية له على خطبة للنبي بعد العصر، وقد قال: ولم يزل يخطب حتى لم يبقَ من الشمس إلا حمرة في أطراف السَّعَف…. فرُجَّ المجلس من الطرب لكلام أبي سعيد.. ولا والله، ما جاء بهذه الحمرة، التي بقيت عالقة بعد الزوال بأطراف سعف النخل، قلم شاعر إيطالي، ولا ريشة رسام إيطالي! كما يصف لنا نخلة.
وهذه العُصبة من الطراز الأول، التي فيها الأخطل الصغير وأمين نخلة وأمين الريحاني ورفاقهم من المسيحيين، لم يكن يغيب عن أفرادها جمال وبلاغة القرآن ومعرفة أحاديث النبي محمد، صلى الله وعليه وسلم، فقد قال أمين نخلة: “ما قرأتُ في القرآن قط، وتلقَّفتني تلك الفصاحة من كل جهة، وشهدتُ ذلك الإعجاز الذي يطبق العقل، إلا صِحتُ بنفسي: انجي، ويحَكِ، فإنني على دين النصرانية!”.
ولأمين نخلة وصف بديع لصوت مؤذن في الخليج، حتى إنه قال: “فلا، والله، ما نزل من عيني سيد درويش، وأم كلثوم، والشَّوَّا، إلا في تلك الساعة!”، كما ينقل في إحدى خواطره تأثره بصوت قراءة الشيخ محمد رفعت القرآن.
المرأة وأمين نخلة
أمين نخلة أديب رقيق، تراه ينظر إلى امرأة جميلة تحمل عِقْدًا يتموَّج على عنقها فيخاطب العقد قائلًا: “سألت له الله أن يهدأ، فقد تعب مما رأى”! ويرى امرأة تلبس ثوبًا أزرق فيقول: “أحببتُ من أجلك كلَّ غمامة زرقاء يا ذات القميص الأزرق”، ويرثي شوقي فيقول: “مرَّت ثلاثة أشهر فكأنما عمري من الدنيا ثلاثة أشهر”.
يقول أمين نخلة إنه سمع ماري عجمي، وهي أديبة لبنانية، تقول له: “أنتم الرجال تقولون إن المرأة زهرة من الورد، وزهرة الورد لها أكمام وأرج، ولها أيضًا أشواك حادة، فما لكم جماعة الرجال تقيمون الدنيا وتقعدونها كلما بدر من المرأة ما يخز ویغمز الجلد؟! “.. هذا کلام قالته له “ماري” في بعض مجالسهم عندها، أيام كانت تأتي بيروت في بعض المواسم.. وقد حلا لأمين نخلة كثيرًا خروجه يومئذ بين الجد والفكاهة من فم تلك الكاتبة.
وقال المطران البستاني لأمين نخلة، في أثناء حديث كان المدار فيه عن موظف في الحكومة جرّته زوجته إلى الفساد والرشوة: “المرأة يا فلان، تقود الرجل بشعرة من ضفائرها”.. وعلَّق نخلة: “وهي كلمة بديعة على هذه الشعرة، التي تُقاد بها أعناق الرجال، ليست كلمة معاوية على الشعرة التي جعلها بينه وبين الناس، بأبرع منها في بابها، ولا ألطف تورية، ويقصدون بكلمة معاوية قوله: (لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، إن شدّوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها)”.
وفي ذات مرة كانوا يتذاكرون كلمة الشاعر “بيرون” البارعة: “إن المرأة التي تطيل الجلوس في النافذة هي أشبه شيء بعُنقود تدلَّى إلى الطريق”، فقال الأخطل الصغير، وكان معهم في المجلس: “فهي دانية القطوف، لجاء المعنى أوفى”، وعلَّق نخلة بأن “بيرون” أراد نسيبًا وغزلًا، لكن الأخطل أراد فكاهة.
وعلى ذكر النوافذ قرأت أن الفيلسوف “سنتيانا” وصف نساء قريته الأصلية في إسبانيا بأنهن “يجلسن بجوار النوافذ يغازلن معارفهن من الرجال، ثم يكفِّرن عن أسلوبهن في تزجية وقت الفراغ هذه بالاعتراف في الكنيسة”.. فردَّ عليه الفيلسوف برتراند راسل بأن هذه حياة مملة فارغة سقيمة، فاعتدَلَ “سنتيانا” وأجاب بحدة: “إنهن يقضين حياتهن في أعظم شيئين: الحب والدين”.
كلمة الشيخ الجسر وجمال الحياة
دخل متهم على الشيخ محمد الجسر، يوم كان رئيسًا لمحكمة الجنايات في لبنان، وقد جاءه رجل بأقبح التُّهم، من تلك التي فيها مخالفة طبيعة وقتل وتمثيل بالقتيل، وراح الرجل يدور بعينيه في بهرة المحكمة، ويحدق إلى القضاة، فقال له الشيخ: يا هذا، أفلا تستحيي من جمال الحياة؟! وأمين نخلة ينقل لنا هذه القصة وهو يبدي انفعاله بالكلمة المعبرة التي تفسر الحالة، وقد اقتبس رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح كلمةً لبعض كُتَّاب الإنجليز، حين اتهموه بالمحسوبية تجاه جماعته، فقال رياض: “ليس هذا الذي يُقال عنه مصلحة عامة إلا مجموع مصالح خاصة!”.
وقد عرف أمين نخلة في حياته السياسية شخصياتٍ كثيرةً، وكتب ذات مرة عن نائب في البرلمان كان مضرب المثل في شجاعة القلب، وشجاعة اللسان، لكنه كان يخاف زوجته جدًّا، فإذا جاء منزله دخله في ضعف الدجاجة.
وانفعال نخلة بالحياة انفعال الفنان، فقد كان مارون عبود يقول عنه إنه “كاهن الفن”، ونرى أمين نخلة يزور تركيا ويدخل قصر “يلدز”، وهو قصر السلطان عبد الحميد الثاني، فكان في كل مرة يزوره لا يبرح خاطره هذا البيت، الذي يرثي تبدُّل الحال وزوال الملك:
في هذه الدار في هذا الرواق على هذا السريـر رأيت الملك فانْـقرضا
ونراه يتذوق كلمات الجاحظ التي حكاها عند سماعه شعر أبى العتاهية حين قال المنشد:
يا للشباب المرِح التصابي روائح الجنـة في الشـباب!
فقال الجاحظ للمنشد: قفْ، ثم قال: “انظروا إلى قوله: روائح الجنة، فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا تقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان”.
كأن أمين نخلة، وهو يستعيد قصة اندهاش الجاحظ ببيت شعر أبي العتاهية، يدرِّب ذائقته على الدهشة والانفعال بالجمال، وهو يذاكر أمر الجاهلية مع أمين الريحاني ويفكر في حياة العرب، ولا عجب، فقد وُلد في بيت يقرؤون فيه تراث العرب، ودونك القصة القادمة له مع والده!
قطع الحاجة
جاء أحدهم إلى أمين نخلة ذات يوم يسأله حاجةً له، وكان الزائر سمجًا، ثقيل الروح، فضاق صدر أمين عن احتمال الرجل، ولم يستطع أن يمسك على ما في نفسه من الحنق، وكان والده ساعتئذ في غرفة إلى جانب غرفة أمين، يسمع شيئًا كثيرًا مما بدر من ابنه أمين عند الغضبة.. فلم يلُمه على ما أتاه، بل إنه أغضى وتغافل.
فلما كان المساء، وجاءت الساعة التي كانت ترجُح العمر كلَّه عند أمين نخلة، فقد كان والده يتخلَّى له فيها وحده، أقبل على والده وفي يده كتاب “محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء” للراغب الأصفهاني، وقد فتح على بعض صفحات الكتاب، ووضع إصبعه فوق كلام في الصفحة، وهو يقول: وحياتي أن تقرأ هذا، فإذا هناك ما حرفه: “دخل رجل على الأمير قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلَّمه في حاجة له، ووضع نصل سيفه (رأس سيفه) على إصبع رِجل الأمير، وجعل يكلمه في حاجته وقد أدمى النصل إصبعه، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف، دعا قتيبة بن مسلم بمنديل فمسح الدم من إصبعه وغسله.. فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحك الله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها! فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته”.
ثم قال له والده: هذا، وقتيبة بن مسلم غير مأجور، وأنت مأجور، وكان أمين نخلة يومئذ في أول عهده بالمحاماة!
وديع فلسطين يحكي عن أمين نخلة
يحكي وديع فلسطين في كتابه الجميل والممتع عن “أعلام عصره” قصة تعرُّفه إلى أمين نخلة، ففي بدايات عمره مشتغلًا بالصحافة، مشدودًا إلى الأدب، تعرَّف إلى دبلوماسي شاب يعمل في المفوضية السورية بالقاهرة، فأخبره أنه شاعر، وبأنه يطبع ديوانه الثاني وعنوانه “طفولة نَهْد” في مطابع القاهرة، وعلم منه أن ديوانه الأول باسم “قالت لي السمراء” نُشر في دمشق، وأحدث فيها وفي برلمانها ضجةً مدويةً، رُئي معها نقله إلى القاهرة من قبيل الترضية للثائرين عليه.
هذا الشاعر الشاب هو نزار قباني (1923-1998م)، وكان وديع ونزار يذرعان القاهرة طولًا وعرضًا، ولا سيما بعد ظهور ديوانه، لتعريفه بالأدباء المصريين وإهدائهم الديوان.
وفي لقاء من لقاءاتهم المتعددة معًا في تلك الفترة – نحو عام 1948- سأل نزار وديعًا: هل قرأت “المفكرة الريفية”؟ فقال له وديع: وما المفكرة الريفية؟ فقال نزار: إنها كتاب بديع للأديب الشاعر أمين نخلة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها وديع باسم أمين نخلة، وطلب الكتاب من بيروت.
وعندما طالع وديع الكتاب اكتشف أن أمين نخلة يختار ألفاظه من سبائك الذهب، وينتقي أسلوبًا في الكتابة جميلًا بليغًا معبِّرًا، وأنه غني بمعجمه في وصف الطبيعة والريف، وكأنه مصوّر مفتون بجمال الكون، وريشته عبقرية – كما يقول وديع- في رسم صور البلابل والزهور، والأعناب، والفاكهة، والينابيع. وحسبُك بأسلوب أمين نخلة في الوصف قوله في “المفكرة الريفية”: “الكريز، وهو الذي يكاد يثب من نفسه إلى فمك”، كما يقول: “الهرُّ لا يأكل آباءه، بل يأكل بَنيه”.
وهكذا عاش وديع مع “المفكرة الريفية” وتعرَّف فيها بقلم أمين نخلة الجميل، ثم أرسل إليه أمين برسالة عليها شجرة الأرز وصورة البرلمان اللبناني، فقد كان أمين عضوًا في ذلك البرلمان، وفي تلك الرسالة يطلب نخلة فصولًا نشرها ولي الدين يكن في جريدة “المقطم” لأنه يجمع تراثه، فكتبها وديع وأرسلها إليه.
ثم زار وديع فلسطين لبنانَ عام 1955م، وهناك التقى نخلة، وكان لقاءً وديًّا، ولاحظ وديع أن في أمين كثيرًا من خصائص الأرستقراطية الرفيعة، إذ يتكلم بكثير من الثقة بالنفس، وكل كلامه قاطع ناجز، له قامة مشيقة، وملامح صارمة، لعله اكتسبها من مهنة المحاماة، ومما قاله له أنه سيرشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية.
وفي أول زيارة لوديع فلسطين عند خليل مطران تحدثا عن أمين نخلة فقال له مطران: نخلة من أشعر شعراء العصر.. وهنا أتوقف عند قصة عن مطران حكاها الشاعر إبراهيم ناجي، يقول: “كنت أدعو خليل مطران بـ(عمي) والناس ينسون كثيرًا في مصر، فأخذوا لا يذكرونه كثيرًا في أواخر أيامه، وفي حضرته أخذت أنشد شعره، وكان مطران مريضًا مهمومًا، فحاولت أن أسرّي عنه، وأخذت أنشد شعره والوقت يمضي، حتى إذا أنشدتُ أكثره بكى مطران وقام فقبَّلني، وقال: الآن أموت مسرورًا”.
وكُتُب أمين نخلة ذخيرة أدبية، كما يقيمها وديع فلسطين، بسبب فرط عناية نخلة بانتقاء ألفاظه، وحرصه على التنقيح في كل أثر يصدر عنه طلبًا للجودة ونُشدانًا للكمال.
ذكرى العقاد والمازني وطه حسين والكرملي
يحكي أمين نخلة عن ذهابه إلى مصر، مندوبًا للبنان في عرس الملك فاروق، وكان أول من تلقّاه من أدباء المصريين بتحية القادم هو إبراهيم عبد القادر المازني، ومعه الأستاذ العقَّاد، وكان المازني والعقَّاد يعملان معًا في جريدة البلاغ المشهورة، كرسيّ الأول لصق كرسي الثاني في الغرفة الواحدة.
وكان أمين نخلة يجلس معهم في هذه العرفة، وفي جلسة رُفعت فيها الكلفة، وتدور فيها لطائف يرقرقها المازني في خفة من الروح، يخاطبه أمين نخلة بقوله: “يا أخي”، أو “يا إبراهيم”، ويقول أمين في مخاطبة العقاد: “يا أستاذ”، ويرى نخلة في نفس العقاد شيئًا كالغيظ، أو كالعتب، كأنما يريد العقاد ألا يتجه بصداقته كلها نحو المازني، فيقول له المازني، وهو يتكلف الجد في الهزل: “وكيف تريد غير ذلك! كيف يقدر أمين أن يقتحم الجبال الممتنعة؟” (يشير إلى عبوس كان بالعقاد، وإلى مديد قامته)، ثم يقول المازني للعقاد: “كيف يترك هذا السهل الداني؟ (يقصد بذلك نفسه، وقد كان بين الربعة والقصير، وبه عرج) فيا أخي: انزل إلينا قليلًا..”.. وهكذا كان المازني يشاكس العقاد بهذه الأحاديث الممتعات المازنية إلى أن يحرك قمقم العقاد، فيفيض العقاد في الانبساط والمرح ما شاء الله له!
وقال أحد الكتاب لأمين نخلة: “أسلوب طه حسين في الكتابة من أعجب الأساليب، فكأن طه إذ يكتب يتكلم، وإنما هو يكتب كي لا يقاطعه أحد…”، فقال أمين نخلة: هذا أفحش طعن على كاتب سمعته في حياتي! إلا أن فيه من الملاحة ما يشفع بنقْله!
ولقد لاحظت في أحاديث أمين نخلة هجاءً لموسيقا الجاز، وحديثًا فيه عنصرية عن ثقافة السُّود، وهو يغلف ذلك بحبه الذوق الكلاسيكي في الموسيقا، وهي من آفات الأرستقراطية التي تمارس عنصرية على الشعوب، فهو يعتبر موسيقا الجاز موسيقا “عبيد إفريقيا”، وأنها عبارة عن صخب وزعيق وصياح مُنكر.
وطرائف أمين نخلة مع الأدباء ممتعة، فقد جمعه مجلس في بيروت بالعلّامة أنستاس الكرملي، صاحب لغة العرب، ودار الحديث عن الكناية والمجاز والاستعارة، وتحجّر الواسع في العربية، فقال أمين نخلة للكرملي: “ما لنا في هذا الزمن، زمن السيارة الكهربائية، لا نزال نقول مثلًا، فلانٌ شديدُ الشكيمة، وإنما الشكيمة الحديدة المعترضة في فم الفرس!”، فقال الكرملي: تريد إذًا أن نقول شديد الدريكسيون! (يريد موجِّه السيارة)، فقال أحد الجالسين: لا هذه ولا تلك، بل نقول عنيدٌ ويتمُّ المعنى!
أمين نخلة ولهْو الأيام
كتب الأديب السوري أحمد الجندي سيرة أدبية جميلة بعنوان “لهْو الأيام: مذكرات سنوات المتعة والطرب والثقافة”، وهي مذكرات للأديب أحمد الجندي تحفل بالأخبار الأدبية عن شخصيات سورية، مثل فخري البارودي ونزار قباني وعمر أبو ريشة، وغيرهم، وهي شهادة من الجندي عن الأدب في عصره، ويحكي عن مجالس دمشق وزيارات المشاهير إلى سوريا، مثل الممثل يوسف وهبي والشيخ عبد الله.
في هذه المذكرات، يمر على أمين نخلة، الذي تعرَّف إليه الجندي، يقول الجندي إن أمين نخلة شاعرٌ ومجنونٌ، ولم يجد الجندي في مشواره الأدبي أحلى من حديث أمين نخلة، ووصفه بالجنون مثل أبيات أحد شعراء الصوفية:
مجانيـن إلا أن سـر جـنـونهـم عظيم على أعتابه سجد العقل
تُتيح لنا مذكرات الجندي فرصة لتعرُّف نخلة، فهو يصفه بأنه ممتلئ الجسم واسع العينين، لديه بحّة محببة في صوته، خصوصًا حين يُنشد الشعر، ولكنه إنسان لم يتقيَّد بشيء في حياته، لا بدينٍ ولا عُرف ولا تقاليدَ ولا عادات، لقد جاء ليعيش في عزلة عن هذا العالم كله ببيئة كوَّنها لنفسه لا يشاركه فيها أحد، يلبس فلا تعرف كيف يلبس، ولكنه ذو رأي صحيح في كل ما يلبس، ويجلس فلا يأكل إلا قليلًا، ولا يشرب إلا قليلًا لأنه يكون دائمًا مشغول البال بشِعره الجديد، وقد عاش أمين نخلة نحو سبعين سنة، ولما مات لم يشيِّعْه إلا عدد قليل من معارفه وأقربائه، زاره الجندي فوجده على طاولته يأكل فتة الحمص “التسْقية” المعروفة في دمشق، وقد وضع دفتره إلى جواره، فهو يأكل كل لقمة وينظر في الورقة فيشطب حينًا كلمة أو يضع كلمة جديدة.
ويخلص الجندي إلى أن أمين نخلة واحد من شعراء الكلمة والصورة، فهو فنان رفيع القدر، ومن أعرق الشعراء في موقع الكلمة، ومن أقدرهم على اختيار النغمة التي تنبثق عن الكلمة وعن حروفها، ومن شعره الذي يرتفع فيه إلى سماوات الفن العليا قوله:
أُحبّـكَ في القـنـوط، وفي التـمـنّي كأني صرتُ منكَ، وصرتَ منّي
أحبّـكَ فـوق ما وسعتْ ضلـوعي وفـوق مـدى يـدي، وبلـوغ ظـنّي
هـوىً مُـترنّـح الأعـطاف، طلـقٌ عـلـى سـهـل الشـبـاب المـطمـئـنّ
ثم ينبهنا الجندي إلى أن على القارئ تأمُّل هذه الألفاظ المنتقاة كأنها حبّات لؤلؤ في إناء من ذهب.
وأمين نخلة شخصية أدبية بارزة فيه تفرُّد في الرأي، كان فخري البارودي ينصحه بملاحظات كثيرة، ولم يكن يسمع، ثم يحكي الجندي في مذكراته شيئًا من نفسية الشعراء، فيقول إن الشاعر كالطفل، يحب التقدير والتربيت على الكتف، ويُسَرُّ بالمديح والإطراء، ولقد أحرجه مرة الشاعر أمين نخلة فطلب إليه أن يُسمعه أبياتًا له، في حضور أحمد رامي وصالح جودت، فأُعجِبا بها.
وينقل لنا الجندي بعض آراء أمين نخلة العجيبة، فقد دعا أحمد الجندي ذات مرة في بيروت إلى مطعم من أشهر المطاعم، وعند الغداء قال نخلة لعامل المطعم: أحب أن آكل مما صنعتم أنتم لأنفسكم، فجاؤوه بصحْن بسيط لا يلفت النظر، وحين قال له الجندي: ما هذا؟ ردَّ نخلة بأن العمال “الجرسونات” ينتقون دائمًا أفضل الطعام لأنفسهم، فأنا لذاك آكل مما يصنعون لأنفسهم، فضحك الجندي وقال له: يا لك من فيلسوف غذائي. ولم يكن أمين نخلة غنيًّا لكنه كان كريمًا كرم النبلاء، وكان شعره يتساوى مع نثره، وهذه الصورة من غرابة الأطوار ليست عجيبة عن الشعراء والفنانين، الذين هم في كل وادٍ يهيمون.
لفت نظري في قصة أمين نخلة ولعه بالفن، وبالكلمة الأنيقة، وتعلُّقه بالتراث العربي، وتذوقه عيون كلام العرب، وأن لديه ذكرياتٍ أدبيةً منوعةً مع أحمد شوقي وأدباء عصره بثَّها بين نثره، والناس تنصرف إلى السِّير الذاتية والمذكرات المشهورة، لكن لا تنتبه إلى أن في كتب الأدب اعترافاتٍ وقصصًا ذاتية وحكاياتٍ تصف العصر بعيون الأدباء.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
مقال هو ذخيرة أدبية كوصف فلسطين لكتب أمين .