أيها المكلوم من الكوارث!

بواسطة | سبتمبر 20, 2023

بواسطة | سبتمبر 20, 2023

أيها المكلوم من الكوارث!

ماذا عساها تفعل الكلمات أمام هول ما عشتَه من زلزلة الأرض واهتزاز البيت، ومن اجتياح الأمواج وفزع قلبك وصراخ أسرتك وأبنائك وبناتك من حولك؟ وماذا يمكن للأقوال أن تضمّد من جراح القلب الذي لوّعه موت الأحباب، أو فقدهم تحت الركام وتحت الردم دون قدرة على الوصول؟ أو ماذا يمكن القول في حضرة تشردك في العراء، وفقد المال والمسكن، والتحوّل إلى شدة الفاقة والحاجة مع عزّةٍ في النفس وكبرياء في الروح؟. ولكنها كلمة؛ والكلمة بها واسى الله أنبياءه وأحبابه وأصفياءه حين اشتد بهم الكرب، وثقلت وطأة الآلام على نفوسهم. وعساها كلمتي تكون الكلمة التي تخرج من قلبٍ ملتاعٍ إلى قلبك المكلوم، لتدخل دون استئذان فتمسح جرحا راعفا أوله في قلبك وآخره في قلبي.
دعني أقول لك دون مبالغة أو تكلف؛ إن في ابتلاء الله تعالى لك هذا الابتلاء الشديد علامة محبته لك؛ أجل أيها المكلوم المنكوب، إن ما أنت فيه من آلام وابتلاء شديد يدل على عظيم حب الله تعالى لك إن رضيتَ وصبرت، ولعلك تسأل؛ كيف يبتلي الله من يحبهم بهذا الابتلاء العظيم والألم الشديد؟ فيأتيك الرد في ثنايا قول الله تعالى: {فأمَّا الْإِنسان إِذا ما ابتلاه ربُّه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربِّي أَكْرمنِ* وأمَّا إِذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربِّي أهاننِ* كلّا}.. وفي هذه الآيات زجر واضح لمن يقصُرُ دلالة سعة الرزق والأمن والسلامة على حب الله تعالى، بينما يقصرُ دلالة المصائب ــ والزلزال والإعصار منها ــ على الإهانة والعقاب. وقد بيَّن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الابتلاء علامة حب الله تعالى لعبده الذي يبتليه؛ فقال فيما رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن: “إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط”.
ثم ألا يرضيك أن تكون معاملة الله تعالى لك كمعاملته لأنبيائه وهم أحب خلقه إليه؛ لتكون بعدهم في درجة القُرب منه؟. ألا فاسمع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يجيب إذ سئل فيما رواه الترمذي بسند حسن صحيح: “يا رسول الله! أيُّ الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه؛ ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة”.
وكأني ــ يا صديقي ــ بابن القيّم يقصدك أنت في خطابه في كتابه “مفتاح دار السعادة” حين يقول: “وإذا تأمّلتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوتَه، بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنُه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومِنّة عظيمة؛ تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان؛ فلله سبحانه من الحِكَم في ابتلائِه أنبياءَه ورسلَه وعبادَه المؤمنين، ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته؛ وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة، إلا على جسر المحنة والابتلاء؟”.
لن أطيل عليك أيها الحبيب؛ ولكن مهما اشتدّ وجعك؛ ابقَ موقنا بقضاء الله تعالى، مؤمنا بقدره، ومؤمنا بحبّ الله لك في مصابك؛ فقابل حبّه بحبّ؛ فأسرع بالأوبة إليه، وكثّف الضراعة بين يديه، واعلم أنه لن يتخلى عنك فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؛ فعلّق قلبك به، وصِل حبلَك ببابه ولن تندم في الدنيا والآخرة؛ فهو حسبك وهو نعم الوكيل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...