أيهما أكثر حضارة الخلافة الراشدة أم الدولتان الأموية والعباسية؟

بواسطة | أغسطس 30, 2023

بواسطة | أغسطس 30, 2023

أيهما أكثر حضارة الخلافة الراشدة أم الدولتان الأموية والعباسية؟

تثور في الأذهان وعلى الألسنة أسئلة عدة، في إطار مقارنة مرحلة الخلافة الراشدة بما جاء بعدها من الدول، لا سيما الدولة الأموية والدولة العباسية، ومن هذه الأسئلة ما هو متعلق بمدى حضارية الدولة والفترة والمرحلة؛ فهل الخلافة الراشدة أكثر حضارة من مرحلتي الأمويين والعباسيين؟ وكيف يكون ذلك والدولة الأموية والدولة العباسية قد شهدتا ازدهارا عمرانيا واقتصاديا وعسكريا بأضعاف مضاعفة عما كانت عليه مرحلة الخلافة الراشدة؟.
جوهر الحضارة
يرجع الإرباك في تقرير أي المراحل أكثر حضارة إلى الضبابيّة في تحديد جوهر الحضارة، ويحدث الإشكال في التقييم عند اعتبار جوهر الحضارة هو التطور العمراني، أو الازدهار الاقتصادي أو التفوق التقني، أو الامتداد الجغرافي أو الهيمنة العسكرية.
إنّ الإنسان هو جوهر الحضارة، وهو المقياس الرئيس والأول للتحضّر، ففي أي مكان أو حقبة يتقدم الإنسان فيهما على كل شيء تكون الحضارة أكثر رقيّا وازدهارا، وحين يتراجع الإنسان لصالح تقدُّم المادة والآلة والبنيان، تكون الحضارة في طور التراجع والتحول إلى قشرة هشّة أو وهم حضاري ليس أكثر.
في كتابه “الحضارة” ناقش حسين مؤنس إشكالية مقاييس الحضارة، وخلص في نهاية المطاف إلى أن المعنوي مقدّم على المادي، والعمل بهذا مقياس للتحضُّر، مؤكدا أن الإنسان هو مقياس التحضّر؛ فيقول: “إن الهدف من كل الجهود الحضارية هو النهوض بالإنسان نفسه، فإذا بقي على جهالته ووحشيّته وضلالته، وانتكس وتدهور؛ فما قيمة الرقي المادي في ذاته؟!”.
أما عباس محمود العقاد في كتابه “غاندي” فينقل أن الزعيم الهندي كان يرى أن حضارة الآلة تحجب الإنسان عن المطالبة بحاجاته العليا، وأنها تخلق له حاجات يمكنه الاستغناء عنها لتستعبده بها، فهي إذن كلما هيمنت كانت دلالة على تراجع التحضّر لا تقدُّمه.
وأما الرحالة والمؤرخ الشهير “ابن بطوطة” فقد انتهى بعد عقود من التنقل بين البلدان والثقافات، والتعامل مع كثير من الحضارات، إلى أن العدل والإنصاف هو المعيار الرئيس للحكم على أي دولة أو قبيلة أو شعب بالتحضر من عدمه، فكلما كان العدل والإنصاف راسخا مطَّرِدا كانت الحضارة أعلى وأكثر، وكلما غاب العدل غابت الحضارة، ولو حضرت المادة وحضر البنيان والاقتصاد والآلة.
وكذلك هو مالك بن نبي، عندما يتحدث عن الحضارة يؤكد أن الإنسان هو جوهرها، فنراه يقول: “إنني أؤمن بالحضارة على أنها حماية للإنسان، لأنها تضع حاجزا بينه وبين الهمجيّة”؛ ويقول أيضا: “إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان، ليس الاقتصاد إنشاء بنك وتشييد مصنع، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحرّكه إرادة حضارية”.
الإنسان بين الخلافة الراشدة والدولتين: الأموية والعباسية
بعد هذا الإسهاب في تحرير جوهر الحضارة، فإنه يغدو من اليسير تحديد أيهما أكثر حضاريّةً؛ فليس معيار الحضارة إذن هو كون الخلافة الراشدة كانت بسيطة التكوين، بسيطة في عمرانها غير متفوقة في بنيانها، وأنها لم تبلغ الأوج الذي بلغته الدولة الأموية أو الدولة العباسية في ازدهارهما الاقتصادي وطرازهما المعماري.
ولئن كانت الدولة الأموية والدولة العباسية قد تفوقتا في الإنجاز على مستوى الفتوحات، وعلى مستوى البنيان والازدهار الاقتصادي؛ فمِمَّا لا شك فيه أن الخلافة الراشدة قد تفوقت عليهما، بل على كل ما جاء بعدهما من دول وأنظمة وكيانات سياسية في الإنجاز على مستوى الإنسان؛ وهذا هو الإنجاز الحضاري المذهل، الذي يجعل الخلافة الراشدة هي النموذج الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتهاجه والعضّ عليه بالنواجذ، وأمر بتعميمه واستعادته.
الإنجاز هو في خلق الإنسان المتحرِّر من الدوران حول الأشخاص والأشياء، ليكون الإنسان الذي يدور حول الفكرة العظيمة السامية؛ الإنسان الحرّ بأرقى معاني الحرية، التي تعني التخلُّص من استعباد الإنسان للإنسان واستعباد الآلة للإنسان واستعباد الحاكم لرعيّته وإخضاعه لهم، الإنسان الذي يتربّى على العدل والإنصاف فلا يهاب حاكما ولا يخشى سطوة ظالم، الإنسان الذي يستطيع أن يقول للحاكم: “لا” بفمه الملآن، دون أن يخشى سطوة الدولة وأجهزتها، كما جرى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ يتهدّده غلام ليس من العرب، فيقول: “إن هذا الغلام يتوعدني”، ويبقى ذلك الغلام آمنا على نفسه لا تقتحم أجهزة الأمن بيته، ولا تقتاده إلى السجن. إنه الإنسان الذي يتصدى للحاكم، فيجعله يتراجع عن رأيه ويقول أمام الجماهير: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”، الإنسان الذي يستطيع التعبير عن رأيه بأبلغ حرية ويحظى بالحماية من الحاكم، ولو هذا المعبِّر على باطل.
هو الإنسان الذي يرى الحاكم أمامه يموت فقيرا حقا، لا يموت بفقر استعراضي وقد خلّف لأبنائه وأقربائه الملايين، الإنسان الذي يرفض أن يكون المسؤول عنه متميزا عليه في ملبس أو مركب أو معيشة، الإنسان الذي يرى رأيه مؤثِّرا فعلا ضمن نظام شورى حقيقية لا صوريّة، فهو الذي يختار الحاكم ويُقرّه على أفعاله أو يرفضها، ويعينه على سلوك الصواب أو يقوّمه عند الحاجة، وهو الإنسان الذي يرى نفسه مؤثِّرا حقيقيّا في مسيرة الدولة، لا مجرّد رقم منصاعٍ لما تفرضه السلطة القائمة أو هيئة الحكم المفروض، الإنسان الذي يعاين كيف يكون اقتصاد الدولة، ومواردها المالية تعود إليه وتصبّ في خدمته؛ وليس هو الذي يكدّ ويتعب لبناء اقتصاد الدولة ثم تجود عليه بفتاتٍ يسير، وفوق هذا تفرض على هذا الفتات ضرائب باهظة لقاء ما يتلقّاه من خدمات في هذه الدولة.. هو الإنسان الذي انبعث من مجاهيل الجاهليّة لينشر في الأرض العدل والرحمة فيصبح ملء سمع البشرية وبصرها، بعد أن كان نكرةً لا يسمع به أحد إلا على سبيل الاستهتار وضرب الأمثال بالذّلّة والمهانة.
وهذا الإنسان بهذه الماهيّة المثلى والمكانة العليا لم يكن موجودا بالصورة ذاتها والرتبة نفسها والجوهرية في الكيان القائم، لا في الدولة الأموية ولا في الدولة العباسية؛ فقد انسحبت فيهما جوهريّة الإنسان بنسبة أكبر لصالح جوهريّة البنيان والازدهار الاقتصادي وتطويع المبادئ العامّة، بما فيها الشورى بنسبة معيّنة، لخدمة مؤسسة الحكم الوراثي؛ ولهذا كله فإنه يمكننا القول دون أدنى شعور بالحرج أو التكلّف أو المبالغة: إن الخلافة الراشدة أعظم حضارة، والإنسان فيها أكثر تحضُّرا من الدولة الأموية ومن الدولة العبّاسية، ومن كل ما كان بعدهما، ولذا فهي النموذج الحضاري الذي تصبو إليه تطلعاتنا وجهودنا في أن تعود خلافة راشدة على منهاج النبوّة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...