إسرائيل.. “الفقه” القاتل

بواسطة | مايو 9, 2023

بواسطة | مايو 9, 2023

إسرائيل.. “الفقه” القاتل

في روايته “ملائكة في سماء يهودا”، التي صدرت قبل أربعة عقود، توقع الكاتب الإسرائيلي دانيل جلري تحول إسرائيل إلى “دولة شريعة”، تحكم وفق تعاليم “الفقه اليهودي”، وتلعب مرجعيات الإفتاء الحاخامية فيها دورا مهما في توجيه سياسات حكوماتها.
عد النقاد في حينه الرواية ضربا من “فانتازيا” غير واقعية، لا تعبر أحداثها عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في إسرائيل، الذي لم يكن للفقه اليهودي تأثير كبير عليه، بفعل هيمنة النخب العلمانية على النظام السياسي، واحتكارها القدرة على توجيه المناشط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. لكن واقع الأمور حاليا يشي بأن جلري قد استشرف مآلات الأمور في إسرائيل بشكل دقيق ومحكم؛ فحركة التأصيل الفقهي تتأجج، والمجاميع الحاخامية التي تعنى بأمر الفتوى تتزايد، ويتعاظم تأثيرها على سياسات الحكومة وقراراتها.

بعد أن كان يتم تخصيص موارد مالية للاهتمام بحركة “التأصيل الفقهي”، ضمن الموازنة السنوية للمؤسسة الدينية الرسمية، التي يطلق عليها “الحاخامية الكبرى”؛ فإن حكومة نتنياهو الحالية قد خصصت موازنة خاصة لتمويل حركة التأصيل الفقهية، التي تعكف عليها مجامع حاخامية خارج إطار “الحاخامية الكبرى”.

فقد باتت الحكومة ترعى حركة “التأصيل الفقهي” وتشجعها، عبر تخصيص موازنات مالية سنوية لتشجيع الحاخامات على بلورة مقاربات “شرعية” لطيف واسع من المسائل التي تعنى، بين أمور أخرى، بالتعاطي مع الصراع مع الشعب الفلسطيني. وقد لعبت مشاركة الأحزاب الدينية بشقيها، الحريدي والقومي، في الحكومات التي تعاقبت على إدارة دفة الأمور في إسرائيل، خلال العقود الثلاثة الماضية، دورا حاسما في تعزيز الاهتمام بحركة “التأصيل الفقهي” والعناية بالفتوى. وبعد أن كان يتم تخصيص موارد مالية للاهتمام بحركة “التأصيل الفقهي”، ضمن الموازنة السنوية للمؤسسة الدينية الرسمية، التي يطلق عليها “الحاخامية الكبرى”؛ فإن حكومة نتنياهو الحالية قد خصصت موازنة خاصة لتمويل حركة التأصيل الفقهية، التي تعكف عليها مجامع حاخامية خارج إطار “الحاخامية الكبرى”. فقد نص الاتفاق الائتلافي بين حزب الليكود، الذي يقوده نتنياهو، وحركة “يهدوت هتوراة” الدينية الحريدية، والذي على أساسه تشكل الائتلاف الحاكم الحالي، على تخصيص موازنة سنوية لتمويل حركة التأصيل الفقهي، التي يعكف عليها حاخامات غير مرتبطين بالحاخامية الكبرى.
وأفضى الاهتمام بحركة “التأصيل الفقهي” إلى ولادة العديد من المجامع الحاخامية، التي تعنى بالفتوى الدينية في إسرائيل، مثل : “مجلس كبار حاخامات التوراة”، وهو إطار يمثل مرجعيات الإفتاء في التيار الحريدي الشرقي، و”مجلس كبار حكماء التوراة”، الذي يمثل مرجعيات الإفتاء للتيار الحريدي الغربي، و”اتحاد حاخامات الصهيونية الدينية”، و”حاخامات المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية”، وهما مجمعان حاخاميان يمثلان مرجعيات الإفتاء في التيار الديني القومي. وقد برزت مرجعيات إفتاء مستقلة اكتسبت تأثيرا هائلا بسبب ميلها الكبير في تبني الرؤى الفقهية المتطرفة، من خلال إصدار “مصنفات فقهية” تناولت بشكل خاص “تأصيل” المسائل الفقهية المتعلقة بالصراع مع العرب والفلسطينيين. وقد اتسمت هذه المصنفات بميل جامح نحو التطرف والغلو، في مقاربة المسائل المتعلقة بالعلاقة مع العرب والفلسطينيين والمسلمين.
ومصنف “شريعة الملك” لمؤلفيه، الحاخامين: يوسيف إلتسور وإسحاك شابيرا، اللذين يديران المدرسة الدينية في مستوطنة “هار براخا”، المقامة على أراضٍ فلسطينية في محيط مدينة نابلس، يعد أحد المصنفات الفقهية التي صدرت في العقد الأخير؛ وقد عني هذا المصنف بشكل خاص بـ “استنباط المسوغات الفقهية”، التي تجيز قتل أطفال غير اليهود وأطفال “العدو”؛ وقد جاء في هذا المصنف: “يتوجب قتل أطفال غير اليهود في حال اعتقدنا أنهم سيضرون بنا عندما يكبرون”، وجاء في موضع آخر: ” يتوجب قتل أطفال قادة العدو، لأن قتلهم يؤذي الأشرار ويجبرهم على التوقف عن قتالنا”. ويحث هذا المصنف على قتل أطفال، حتى لو لم ينتمِ آباؤهم إلى “العدو”، في حال كان هذا ما تقتضيه مهمة إنقاذ اليهود؛ حيث جاء: “عندما يحول وجود أطفال غير يهود دون إنقاذ اليهود يتوجب قتلهم، مع أن وجودهم هناك كان بدون إرادتهم”. ويزخر هذا المصنف، الذي يمتد على 250 صفحة، بهذا النمط من “الأحكام الفقهية” الموغلة في بدائيتها وإجرامها.

من الفتاوى التي أثارت جدلا واسعا في إسرائيل، تلك التي أصدرها سنة 2016، الحاخام الأكبر السابق لجيش الاحتلال الجنرال إيلي كريم، والتي أباحت لجنود جيش الاحتلال “اغتصاب نساء العدو” خلال الحروب.

ومن المفارقات التي تعكس النفاق العالمي، أن تحقيقا نشرته صحيفة “هارتس” في عددها الصادر في 16/12/2016، أظهر أن عائلة جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس الأمريكي السابق، قد قدمت تبرعات كبيرة للمدرسة التي يديرها الحاخامان شبيرا وإلتسور.
وأصدر الحاخام عيدو إلبو مصنف “فقه قتل غير اليهودي”، ضمنه الشروط والظروف التي تمثل “مسوغات فقهية” تبيح قتل غير اليهود.
ومن الفتاوى التي أثارت جدلا واسعا في إسرائيل، تلك التي أصدرها سنة 2016، الحاخام الأكبر السابق لجيش الاحتلال الجنرال إيلي كريم، والتي أباحت لجنود جيش الاحتلال “اغتصاب نساء العدو” خلال الحروب.
وقد انبرى حاخامات لإصدار فتاوى، تضفي “شرعية فقهية” على الجرائم والمجازر التي تنفذها التنظيمات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين. فقد عد الحاخام إسحاك جزنبرغ إقدام الإرهابي اليهودي عميرام بن أويل، الذي ينتمي إلى تنظيم “شارة ثمن” على إحراق عائلة دوابشة الفلسطينية، التي تقطن قرية “دوما” أواخر يوليو 2015، بمثابة “تطبيق لفريضة شرعية”.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تعد الحاخام جزنبرغ المرجعية الدينية لتنظيم “شارة ثمن”، إلا أن هذا لم يحل دون حصوله على جائزة “الإبداع الفقهي” عام 2019 من وزارة التعليم الإسرائيلية وجامعة “بارإيلان”، ثاني أكبر الجامعات الإسرائيلية.
وهناك الكثير من الأمثلة التي تدل على احتضان المؤسسة الرسمية لمرجعيات الإفتاء اليهودية، التي تحث على قتل الفلسطينيين؛ فقد وصف نتنياهو الحاخام دوف شورن، حاخام مستوطنة “كريات أربع” السابق بـ “الكتيبة التي تقود شعب إسرائيل”، على الرغم من أن هذا الحاخام امتدح الإرهابي باروخ غولدشتاين منفذ المجزرة في المسجد الإبراهيمي في 25 فبراير 1994، التي قتل فيها 29 فلسطينيا وجرح العشرات.

إن إغفال الاهتمام باتجاهات حركة “التأصيل الفقهي” المتأججه في إسرائيل، وغض الطرف عن اتجاهاتها البدائية، التي تحرض بشكل فج على الإرهاب؛ يشي بالنفاق الذي تمارسه جهات كثيرة من مكونات المجتمع الدولي

ولعب الإرث الفقهي دورا حاسما في تكريس النزعات العنصرية تجاه العرب، في أوساط اليهود في إسرائيل، بشكل لافت. فحسب التقارير الصادرة عن اتحاد كرة القدم الإسرائيلي، بات شعار “الموت للعرب” أحد أهم شعارات التشجيع، التي ترددها أطر مشجعي عدد من فرق كرة القدم الإسرائيلية، وتحديدا فريق “بيتار يروشليم”.
ولم تؤثر فتاوى الحاخامات فقط على توجهات المجتمع الإسرائيلي إزاء العرب، بل باتت تؤثر على سياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية.
ونظرا لوجود عدد كبير من الشواهد التي تشي بتأثر سياسات إسرائيل الداخلية باتجاهات حركة “التأصيل الفقهي”، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أحدث هذه الشواهد، والمتمثل في إقرار الحكومة في جلستها هذا الأسبوع مشروع “الكهرباء الحلال”، تحت ضغط الأحزاب الحريدية المشاركة فيها. فنظرا لأن المرجعيات الدينية الحريدية تحرم تزويد المدن والمستوطنات التي يقطنها المتدينون الحريديم بكهرباء يتم الحصول عليها من محطات توليد الطاقة التي تعمل خلال أيام السبت والأعياد، فقد تقرر أن تمول الحكومة تدشين مرافق تخزين ضخمة، يتم فيها تخزين الكهرباء التي يتم انتاجها قبل أيام السبت والأعياد، لتزود التجمعات السكانية الحريدية بها خلال هذه الأيام. وقد قدر وزير المالية السابق أفيغدور ليبرمان الكلفة السنوية لإنشاء مرافق تخزين الكهرباء، التي تدشن فقط لاسترضاء المرجعيات الدينية بعشرين مليار شيكل “حوالي 5.5 مليار دولار”.
إن إغفال الاهتمام باتجاهات حركة “التأصيل الفقهي” المتأججه في إسرائيل، وغض الطرف عن اتجاهاتها البدائية، التي تحرض بشكل فج على الإرهاب؛ يشي بالنفاق الذي تمارسه جهات كثيرة من مكونات المجتمع الدولي، التي تعكف على شيطنة الفقه الإسلامي، من خلال تضخيم بعض الاجتهادات التي تصدر عن جهات هامشية في العالم الإسلامي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

كنتُ أهاتف الشيخ عبد الوهاب الطريري ونتحدث عن الكتب وشؤون المطابع وقصص من حياة المؤلفين.. والنقاش مع الشيخ الطريري ممتع ومفيد ومليء بالفوائد، فهو يتذوق القصة الجميلة، ويطرب للعبارة الحلوة، ويتأمل في حياة المؤلفين والكُتَّاب، وكمْ حدَّثني عن مقالات الزيَّات وعصر مجلة...

قراءة المزيد
عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
Loading...