إسرائيل تشن حربا على الحقيقة

بواسطة | ديسمبر 13, 2023

بواسطة | ديسمبر 13, 2023

إسرائيل تشن حربا على الحقيقة

تشهد الحروب الحديثة تطورًا ملحوظًا في استخدام التكنولوجيا ووسائل الإعلام، حيث يستخدم الأطراف القتالية تقنيات التضليل الإعلامي والكذب لتغيير الرأي العام. يتناول هذا المقال جهود إسرائيل في استخدام التضليل الإعلامي خلال حروبها، مستعرضًا محاولاتها الفاشلة في إقناع الرأي العام العالمي بمزاعم كاذبة.

يقول الرئيس الأمريكي الأشهر أبراهام لنكون (هناك معادل اللام الثانية في اسمه Lincoln ولكنها تُكتب ولا تُنطق): تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت”، وتكررت هذه المقولة على ألسنة عشرات المحللين السياسيين والعسكريين الذين يتابعون حرب إسرائيل على غزة، والذين رصدوا أعدادا هائلة من الصور الفوتوغرافية والفيديوية التي نشرتها آلة إسرائيل الإعلامية، لتبرير شراسة هجومها على غزة، ولوصم أهل غزة بالبربرية والوحشية.
كانت الكذبة الإسرائيلية البلقاء الأولى، تلك التي روجت لها الصحفية نيكول زيديك بأن حماس قطعت رؤوس أربعين طفلا إسرائيليا، خلال اجتياح مقاتليها لمواقع في العمق في سياق عملية طوفان الأقصى، وعززت زعمها ذلك بالصور، وسرعان ما هرع الرئيس الأمريكي ذو الحس الإنساني المرهف لتأكيد صدقية الواقعة، ولكن صحفيين غربيين دققوا وحققوا وأثبتوا أن الصور -ومن ثم الواقعة- مفبركة.. ثم كان ما كان من أمر كبير الصهاينة بنيامين نتنياهو الذي بث صورة لطفل إسرائيلي جسمه محترق تماما، ولكن محققا صحفيا أمريكيا أتى بالصورة الأصلية، وكانت لكلب تم إحراقه في عيادة بيطرية، بل إن منصة فيريفاي سايVerify-Sy) ) الألكترونية، والمتخصصة في تقصي صدقية ما ينشر على الإنترنت، أثبتت أن التضليل الإسرائيلي الإعلامي لم يقتصر على إلصاق  كل كبيرة بحركة حماس، بل أيضا بفبركة مشاهد العمليات الحربية في غزة، ومن بينها هجوم للدبابات على مقاتلين فلسطينيين، ولم يكن ذلك أكثر من تلاعب بلعبة أرما3 (Arma3) على الإنترنت.
ثم كان ما كان من نشر موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية لمقطع فيديو لممرضة “فلسطينية” تدين حماس، لأنها سيطرت على مستشفى الشفاء في غزة في 11 نوفمبر الماضي، ولم يكن من الصعب حتى على هبنَّقة أن يدرك أن المشهد يليق بالمسرح المدرسي غير الاحترافي، فقد مضت تلك المرأة تتهم حماس بسرقة الوقود، وحقن عضويتها بالمورفين، ولكن الواضح أن حماس لم تسرق مكياجها ولا زيها شديد الأناقة، ولتأكيد صدقية المشهد كان في خلفية المشهد لافتة عليها “وزارة الصحة الفلسطينية”، ولكن فات الغبيَّ الذي قام بتركيب المشهد أن يغطي على درجة جامعية في إطار أنيق على الحائط مصدرها كلية أبستيرز الطبية في تل أبيب، ثم جاء نفي الكوادر الأوربية في مستشفى الشفاء لوجود بطلة المشهد ضمن أسرة المستشفى، فتم حذف المشهد، ثم جاءتهم صفعة داخلية عندما قال إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إن حكومته وليست حركة حماس هي التي صممت الملاجئ تحت الأرض في المستشفى.
ثم – وفي 13 نوفمبر الماضي- ظهر دانييل هجاري، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، في مقطع فيديو في غرفةٍ جدرانها مكسوة بصور لأطفال، قال إنها غرفة تحت الأرض في مستشفى الرنتيسي في غزة، وإن حماس كانت تستخدمها لاحتجاز الرهائن، ولكنه لم يقدم تفسيرا لوجود ستائر تغطي الجدران في غرفة تحت الأرض (بلا نوافذ)، ثم وبلهجة الظافر يشير إلى لوحة على جدار فيها ورقة عليها كلمات عربية، ويقول إنها قائمة بأسماء “الإرهابيين” توضح مناوبة كل واحد منهم لحراسة الرهائن، ولتأكيد كل ذلك تقترب الكاميرا من اللوحة فإذا بها – وهجاري لا يدري- تقويم عليه أيام الأسبوع!
خلال حرب إسرائيل على غزة في مايو 2021، نشر عوفير غندلمان، الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية، مقطعي فيديو “يثبتان صحة الادعاء الإسرائيلي بأن حماس تستخدم مواطني غزة كدروع بشرية”.. في المقطع الأول يُرى مقاتلون قال إنهم من حماس، وهم يديرون في منطقة مأهولة بالسكان منصة لإطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية، وسرعان ما اتضح أن المشهد لمجموعة سورية معارضة، كانت تقصف أهدافا حكومية داخل الأراضي السورية عام 2018؛ أما المقطع الثاني فكان لطابور عسكري يرافق منصة صاروخية قال إنها “تشق شوارع مدينة غزة”، وكان الطابور في حقيقته في منطقة الجليل التي تسيطر عليها إسرائيل، ويعود أيضا إلى العام 2018. ثم وفي سياق الحملة الإعلامية لتأكيد أن الفلسطينيين يزعمون كذبا أن ضحايا الغارات على غزة بالمئات، بثَّ ناتاليا فاديف من شرطة إسرائيل العسكرية مقطع فيديو لموكب جنائزي “مفبرك” في غزة يُرى فيه السائرون خلف الجثمان وهم باسمون وضاحكون، وكان المشهد المبثوث في حقيقته عملا فنيا هزليا، قام شبان أردنيون بتصويره ووضعه في منصة تيك توك.
ولا عجب في أن تلجأ إسرائيل إلى الكذب لتبرير جرائمها في غزة والضفة الغربية، فقد وُلدت بعد حمل كاذب، وتلجأ حاليا إلى التضليل الإعلامي وفبركة الصور الثابتة والحية، وعينها على الرأي العام الغربي الذي انتفض مستنكرا الوحشية المفرطة التي تمارسها إسرائيل في حربها على غزة، لإدراكها أن الحقائق على الأرض تثبت أنها خرقت القانون الدولي، وداست على كل ما تواطأ عليه بنو البشر من قيم أخلاقية، وقد انطلت أكاذيب إسرائيلية كثيرة في سياق حروبها الكثيرة على الفلسطينيين والدول العربية على الرأي العام العالمي على مر عقود طويلة، ولكن تكنولوجيا الاتصال الرقمي جعلت حبل الكذب قصيرا في السنوات الأخيرة، فكان أن ارتدّت أكاذيب إسرائيل عليها خلال حربها الأخيرة على غزة.
كان الإعلام فنا في الأصل، فقد مارسه عبر القرون هواة موهوبون في مجالات التعبير بمختلف الأدوات، وشيئا فشيئا استنبطت أجيال لاحقة القواعد والضوابط لممارسة الإعلام بأساليب فعالة ومؤثرة؛ فكان أن صار الإعلام علما له قواعد متعارف عليها، يتم تدريسه في المعاهد والجامعات. ولاستثمار تأثير الإعلام نشأ الإعلام المضاد، القائم على ترويج الأكاذيب للتأثير على الرأي العام، وكان الفارس الأول في هذا الميدان الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، الذي أسس وحدة للتضليل الإعلامي في جهاز المخابرات السوفيتي (كيه جي بي)، لتصوير بلاده كفردوس على الأرض، ووصْم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بكل ما يشين.
وهكذا بدأ التضليل الإعلامي كفَنٍّ قائم بذاته، يتم فيه استغلال قواعد علم الإعلام المتفق عليها عالميا لبث الأكاذيب والشائعات لتبرير موقف ما أو النيل من طرف ما، وسرعان ما صار جهاز المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) كبير أساتذة هذا الفن. والتاريخ القريب، والذي معظم شهوده أحياء، يثبت أن الولايات المتحدة مارست أقصى درجات التضليل الإعلامي لتبرير غزوها للعراق في عام 2003، بل ولاستدراج عدد كبير من الدول لتشارك في الغزو فتتوزع دماء العراقيين بين قبائلها، ولتلك الغاية تمت فبركة مشاهد فيديو لمستودعات عراقية لأسلحة الدمار الشامل العراقية، وأُتِي بشهود زور يقدمون إفادات بأن عراق صدام حسين لديه ترسانة من الأسلحة الكيمائية والجرثومية.
تملك إسرائيل أذرعا ألكترونية ضخمة وشديدة التقدم، تعينها على شن حرب نفسية على ما تبقى من خصومها العرب، وعلى ممارسة التضليل الإعلامي للتأثير على الرأي العام الغربي لتقنعه بأنها الضحية وليست الجاني، وهي الآن تبادر بالضرب وتتبعه بالبكاء والشكوى، ولكن التقنيات الحديثة ترتد عليها بالصفعات وتعرِّي قبحها ووحشيتها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...