إسرائيل تواجه فشل إستراتيجية بوتقة الانصهار

بواسطة | أغسطس 8, 2023

بواسطة | أغسطس 8, 2023

إسرائيل تواجه فشل إستراتيجية بوتقة الانصهار

قبل عامين، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك مقالا استشرافيا في صحيفة “يديعوت أحرنوت”، حذر فيه من أن إسرائيل التي تسير حاليا في عقدها الثامن ستواجه تحديات تهدد وجودها، تماما كما واجهت بعض الدول التهديدات نفسها عندما وصلت هذا العقد؛ ودلل باراك على صدق نبوءته التي أسماها “لعنة العقد الثامن”، باستشراء مظاهر الاستقطاب السياسي والصدع المجتمعي، الذي عانته إسرائيل خلال العقد الأخير.
ويدل الواقع الذي تحياه إسرائيل حاليا، بعد طرح حكومة بنيامين نتنياهو خطة “التعديلات القضائية” وما أسفرت عنه من ردود أفعال، على أن فرص تحقق نبوءة باراك باتت كبيرة؛ فالانقسام السياسي بعد طرح هذه التعديلات تفاقم إلى حد أنه بات يهدد استقرار النظام السياسي، والصدع المجتمعي اتسع لدرجة بروز تخوفات من إمكانية أن يستحيل إلى حرب أهلية طاحنة، والأكثر من ذلك، أن أنماط الحراكات الاجتماعية والسياسية التي تكرست كرد على طرح “التعديلات القضائية”، أفضت إلى تآكل أهم مقومات القوة، التي كفلت لها حتى الآن البقاء في بيئة إقليمية معادية ورافضة لوجودها.
لقد أججت التعديلات القضائية الصراع بين المتدينين والشرقيين من جانب، وبين العلمانيين الذين جلهم من أصول غربية من جانب آخر؛ حيث تخشى النخب السياسية والاجتماعية التي تمثل العلمانيين، أن تسفر التعديلات القضائية عن تمكين القوى الدينية والشرقية المهيمنة على حكومة نتنياهو من تقليص الفضاء العام أمامها، عبر إملاء طابع ديني متطرف على الكيان المحتل.
ومما يعزز من مستوى التماهي بين المتدينين والشرقيين في المجتمع الإسرائيلي، حقيقة أن أكثر من 70% من اليهود الشرقيين هم إما ينتمون إلى التيار الديني بشقيه الحريدي والخلاصي، أو تقليديون محافظون يولون أهمية كبيرة للموروث الديني، حتى وإن لم يحافظوا على أداء جميع فرائض اليهودية.
 من هنا، نجد أن وزراء ونواب من أصول شرقية، ينتمون لحزب الليكود العلماني، لا يترددون في دعم توجه الأحزاب الدينية الهادف إلى التشدد في فرض حرمة السبت، وإلزام المجتمع بمنظومة القيم الدينية، مثل الفصل بين الجنسين في المؤسسات والمرافق العامة، وغيرها من أنماط اجتماعية تتعارض مع التوجهات العلمانية.
لكن أكثر ما يثير حفيظة العلمانيين يقينهم بأن الأحزاب الدينية المشاركة في الحكومة ستوظف التعديلات القضائية في مراكمة مكاسب اقتصادية ومادية لأتباعها، الذين لا تشارك أغلبيتهم المطلقة في تحمل مهمة أداء الخدمة العسكرية الإجبارية، فضلا عن أنهم لا يسهمون في سوق العمل. ونظرا لأن الشركات والمرافق الصناعية والتكنولوجية التي يديرها العلمانيون توفر حوالي 90% من الضرائب التي تجنيها الخزانة العامة في إسرائيل، فإن هذا الواقع يثير حنق العلمانيين بشكل خاص، لأنهم يرون أن أتباع التيار الديني من ناحية يتمتعون بثمار الحكم ويوسعون مكاسبهم الاقتصادية على حسابهم، ومن ناحية أخرى لا يتحملون أعباء الخدمة العسكرية والإسهام في سوق العمل.
من هنا، فقد كانت ردة العلمانيين قاسية بشكل خاص؛ حيث أعلن الآلاف من الضباط والجنود العلمانيين في قوات الاحتياط رفضهم أداء الخدمة العسكرية احتجاجا على التعديلات القضائية، فضلا عن أن كثيرا من الشركات، وتحديدا شركات التقنيات المتقدمة والسايبر، قد غادرت السوق الإسرائيلي أو تهدد بمغادرته.
ونظرا لاتساع ظاهرة رفض الخدمة العسكرية في أعقاب طرح التعديلات القضائية، فقد حرصت القيادات العسكرية في تل أبيب على التحذير من أن الجيش بدأ بالفعل يفقد جاهزيته العسكرية واستعداده لخوض الحروب، تحديدا في ظل تعاظم التهديدات الإقليمية على إسرائيل.
وعلى الصعيد المجتمعي، تعالت الأصوات المحذرة من إمكانية اندلاع حرب أهلية بسبب اتساع رقعة الصدع المجتمعي، في أعقاب طرح التعديلات القضائية. ومن المفارقة، أن العديد من النخب الإسرائيلية باتت لا تتردد في العمل على تلافي اندلاع الحرب الأهلية عبر الدعوة إلى تقسيم إسرائيل إلى “دولتين”، دولة تتبع العلمانيين، وأخرى يسيطر عليها أتباع التيار الديني والجماهير المؤيدة للأحزاب المشاركة في الحكومة؛ في حين تدعو نخب أخرى العلمانيين إلى تبني اتجاهات “انعزالية”، ليديروا أنماط حياتهم في ظل أقل مستوى احتكاك مع أتباع التيار الديني.
في الحقيقة، إنه على الرغم من أن إيهود باراك قد تنبأ بشكل دقيق بالواقع الذي تحياه إسرائيل حاليا، فإنه تجاهل الأسباب الحقيقية التي أفضت إلى هذا الواقع، لأن إقراره بهذه الأسباب سينسف السردية الصهيونية، التي مازال هو وبقية النخب العلمانية يتشبثون بها. فالتعديلات القضائية وما رافقها من جدل لم تسبب الصدع المجتمعي والاستقطاب السياسي، بل سمحت بالتعبير عنهما، لأنهما كانا قائمين منذ أمد بعيد؛ فالصدع  المجتمعي والاستقطاب السياسي هما نتاج فشل إستراتيجية “بوتقة الانصهار”، التي أرساها مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها الأول ديفيد بن غوريون، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي قامت على العمل على صهر الثقافات والهويات ومنظومات القيم التي نقلها المستوطنون اليهود من البلدان التي هاجروا منها لإنتاج “ثقافة وهوية واحدة”، أسماها بن غوريون في حينه “ثقافة وهوية وقيم الأمة الإسرائيلية الجديدة”؛ وهدفت هذه الإستراتيجية إلى تقليص التباين بين الأضداد، الذين شكلوا المجتمع الإسرائيلي من علمانيين ومتدينين، شرقيين وغربيين، مهاجرين جدد ومخضرمين، طبقة وسطى وفئات ضعيفة. وقد اعتمدت هذه الإستراتيجية على الأساطير الصهيونية واليهودية، كسردية توحد هذه المجاميع المتباينة دينيا وعرقيا وطبقيا؛ وقد ضمنت إستراتيجية “بوتقة الصهر” التفوق للعلمانيين من أصول غربية، الذين كانوا يشكلون النخبة السياسية والعسكرية، والثقافية والاقتصادية، لأن هؤلاء تولوا مهمة تدشين هذا الكيان الاستيطاني الإحلالي.
لم تنفجر بوتقة الصهر وتتهاوى الأهداف التي كانت معقودة عليها خلال العقود الستة الأولى من عمر هذا الكيان، لأن موازين القوى كانت تميل لصالح العلمانيين الغربيين؛ لكن التحول في ميزان القوى الديموغرافية عزز من ثقة المتدينين والشرقيين بذواتهم، بعدما تمت ترجمته عبر زيادة تأثيرهم في دائرة صنع القرار، من خلال زيادة مستوى مشاركة الأحزاب التي تمثلهم في الحكومات المتعاقبة.
ويتصرف المتدينون والشرقيون كما لو كانوا معنيين بالانتقام لعشرات السنين التي عانوا خلالها من التمييز والإقصاء، عبر استغلال وجودهم في السلطة من أجل توسيع مكاسبهم ومحاولة تكريس بقائهم في الحكم عبر إضعاف الجهاز القضائي، الذي مازال يعد معقلا رئيسا للنخبة العلمانية.
لذا، فإن فرص توصل الفرقاء في إسرائيل لصيغة توافق تنهي الصراع الداخلي الذي أشعلته التعديلات القضائية متدنية للغاية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...