احلموا يرحمكم الله

بواسطة | فبراير 16, 2024

بواسطة | فبراير 16, 2024

احلموا يرحمكم الله

تحدث المقال عن أهمية الأمل والتفاؤل في مواجهة تحديات الحياة. حيث يسلط الضوء على أن البكاء على الواقع المؤلم ليس كافيًا، وأنه من الضروري العمل على تحقيق الأهداف والتطلع نحو المستقبل بإبداع وشجاعة.

قوة الأمل – مواجهة الحياة بتفاؤل وإبداع

كعادته كلما رآني أكتب، مطّ صاحبي شفتيه وأدار وجهة في الاتجاه الآخر..!

كان هذا قبل أن يقطع حبل تركيزي قائلاً: ألم تتعب من الكتابة عن الحلم، ألم تنظر حولك ملياً لتدرك أن حجم البؤس القابع في أفئدة الناس لم يترك لهم من براح التفاؤل والبهجة شيئا؟!

صمت صاحبي بعدما أفرغ على سمعي شيئاً من ظلام روحه الذي يتشاركه مع كثر، ضربات الحياة العنيفة أصابت الناس بعدم الاتزان، حتى غدا المرء منا خائفاً أن يترك سفن تطلعاته وأحلامه تبحر بعيداً، خشية أن تكسرها صخور الواقع القاسية، وصار الأسلم لنا أن نغلق الصدر على وجع من واقع مؤلم، وخوف مما هو منتظر! وهذا لعمري موْت أولي، يسبق موت الجسد ربما بسنوات طوال..

ذلك أن الحياة لم تكن في يوم من الأيام جنة أو بيئة مثالية فاضلة، لم يكللها أبداً العدل المطلق أو التام، في طياتها الكدر والحزن، وفي صندوق مفاجآتها الشيء الكثير، غير أنها مع كل هذا هي السبيل الوحيد المتاح لنا! فلا أحد منا يملك أن يعود لبطن أمه مرة ثانية، أو يستبدل بواقعه واقعاً آخر، أو بزمانه زماناً مختلفاً.. لكننا مطالبون أن نضرب في الأرض طولاً وعرضاً، ونحتال كي نوسع دائرة الخيارات، ونتلقى ضربات الزمان بنُضجٍ قادر على التوقع والفهم والاستيعاب.

يُحكى أن رجلاً وُهب طفلاً فبكى، فلما سُئل عما يبكيه، قال: ولد ليموت!

صاحبنا هذا لم ير في الحدث إلا وجهاً واحداً، أن ما أتى سوف يذهب، وما وهبه الله له سوف يسترده ذات يوم، فقط هذا ما انتبه إليه الرجل وأغرق فكره فيه، وهو وإن كان حقيقياً، فإنه ليس الجانب الوحيد من الأمر.. وليس الحقيقة الوحيدة.

 وكذلك هي الحياة!

فهي وإن كانت كدحاً وكدّاً وكدراً، وأننا على سطحها في اختبار مستمر، وأن ابتلاءاتها شيء مقدر محتوم؛ فإنها أيضاً الملعب الرئيس والوحيد الذي يجب أن نُعبّر من خلاله عن أنفسنا، ونجتهد كي نربح فيه مباراة العمر!

وليس من حقنا أبداً أن نشكو إلى الله شكوى امرئٍ عاجز، ونولي اهتمامنا كله لتتبع وجوه القصور فيها، وإنما علينا أن نشغل الذهن بكيفية أن نحقق أنفسنا، ونغامر، ونجدد، ونبدع.. علَّ ما نفعله يكون طوق نجاة لنا، ومحفزاً لغيرنا، ولبنةً في صرح الأمل الذي نتواطأ جميعاً على هدمه والتشكيك في وجوده.

لن أكون مثالياً وأخبرك أن الواقع وهم والظروف خرافة، كأصدقائنا من أهل التنمية البشرية؛ لكنني على الجانب الآخر لا أجد بدّاً من التأكيد على أن البكاء على واقع ليس لنا يد في تغييره بشكل مباشر، ولا يقع تحت سيطرتنا التامة، هو أمر ليس برشيد، وأنّ الأَولى من هذا أن نرصد في أنفسنا ما يحتاج لتغيير وتعديل، وما يتطلب من تنمية وتطوير، ونستجيب لما تمليه علينا التحديات من إبداع وابتكار.

ومن يراقب الناس يجد أن بعضهم يهرب إلى الخلف كصاحبي المتشائم، يرجع ليجلس على مقعد الضحية، ويكتفي بسكب العبرة الحزينة، والشكوى المؤلمة، والاستهجان من كل امرئ قرر أن ينظر للأمر بشكل مختلف ويتحدى ويقاتل.. وفي المقابل، بعض الناس يهرب إلى الأمام! يملأ خزان عقله بحلم قادم، ينتظر تغيُّر الواقع للأفضل كي يعبر عن نفسه وما يملك من طموحات وتطلعات، أو ربما أغرق نفسه في رواية حالمة، أو أدمن حضور دورات مطاردة الأحلام التي نسمع عنها هنا وهناك.

القلة فقط هي التي تملك الجرأة على الأمل، وتصوغ أحلامها بذكاء!

القلة هي التي تنظر من أعلى، وتستريح قليلاً من الاشتباك مع التفاصيل المنهِكة، وتحاول أن تصوغ فلسفتها الخاصة في الحياة، وهذا يا صديق كان دائماً ديدن الرسل والأنبياء والمصلحين والمبدعين، في كل زمان ومكان.. العمل على المتاح، وتوسيع دائرة الخيارات، وكبح النفس عن عيش دور الضحية، وشجاعة المقاومة.

 ولا يوجد مصلح أو مبدع أتى والعالم مهيَّأ للاحتفاء به، بل – على العكس- كان الجحود به وبما يملك هو الغالب والمسيطر، لكن ذلك لم ينل من العزيمة إلا بقدر صغير، يتناسب مع كوننا بشراً قد نحزن ونتأثر، وقد نبكي قليلاً، دون أن يكون هذا حائلاً عن إكمال المسير وإعادة المحاولة.

دعك من أنك – ومهما طالعت من كتب الأولين- لن تجد أبداً أهل زمان راضين عن زمانهم؛ أصحاب كل زمن يرون واقعهم هو الأشد قبحاً وسوءاً، وأنهم عباقرة قد أتوا في الزمن الخطأ!. وصدقني، لا أقصد أبداً أي تهاون أو استخفاف بما يحيط بنا في واقعنا هذا، غير أن دروس الحياة هي التي تشدد على وجوب النهوض والمقاومة.

أعود إلى صاحبي الذي يلومني، مستاء أن أكتب عن الأمل، لأؤكد له أن الأمل والتفاؤل اللذين أكتب عنهما لم يعودا أمراً ترفيهياً، إنهما فرض عين على كل امرئ فينا، وليس من مصلحة أحد أبداً أن ييئِّس الناس في دنياهم، ويسد أمامهم طرق التفاؤل، لا جدوى من العيش البائس، ووالله إن قتل الأمل في نفوس الناس لجريمة كاملة، غير أنها جريمة ـ مع كثرة شهودها ـ ليس عليها إثبات!

بل، ولو قتل أهل السياسة، والتجارة، والإعلام، الأملَ في واقعنا، فإن دورنا – الذي خلقنا الله من أجله- أن نعيد خلق الأمل من جديد، وتذكير الناس أن لا شيء يساعد الشر وأهله على امتلاك ناصيتنا كاليأس وانعدام المقاومة.

 ولا شيء يربكهم كالحلم والأمل.. فاحلموا يرحمكم الله!

1 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...