استراتيجية يوسف الصدّيق -عليه السلام- في إنقاذ مصر من كارثة اقتصاديّة محقّقة

بواسطة | مايو 26, 2023

بواسطة | مايو 26, 2023

استراتيجية يوسف الصدّيق -عليه السلام- في إنقاذ مصر من كارثة اقتصاديّة محقّقة

ضرب القرآن الكريم مثلا للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية، فأمكن بذلك تلافي مجاعة كانت تهدد الناس في مصر وما حولها، بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السلام، وهو أمين على الخزائن، وذلك حين فسر الرؤيا التي جاءت على لسان ملك مصر -كما مر معنا-. إن يوسف عليه السلام فسر الرؤيا، وزاد عليها بأن قدم خطة عمل تستغرق القطر كله والشعب المصري كله، أي أن خطته اعتمدت على التشغيل الكامل للأمة والبرمجة الكاملة للوقت، ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في الأمة؛ وهذا الذي أراده يوسف عليه السلام وعبر عنه بقوله ﴿تزرعون﴾. إن الذي يخطط له يوسف عليه السلام هو مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي، ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية – استرخاء وبطالة – فإن هذه الأمة تكون عندها في حالة خلل خطير، يحتاج إلى علاج ومعالج خبير. (سورة يوسف دراسة تحليلية، د. أحمد نوفل، ص409)
إنّ يوسف عليه السلام قسم خطته إلى ثلاث مراحل:
– ﴿تزرعون سبع سنين دأبا﴾ [يوسف: 47].
– ﴿ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد﴾ [يوسف: 48].
– ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾ [يوسف: 49].
وتظهر ملامح هذه الخطة في الآتي:

الطابع الغالب على المرحلة الأولى، وهو الإنتاج والادخار مع استهلاك محدود، فيوسف عليه السلام حدد خطط الإنتاج بالزراعة، وحدد استمرار الإنتاج الزراعي بسبع سنين، العمل فيها دائب لا ينقطع؛ ومع هذا الجهد الكبير في الإنتاج المستمر كان هناك تحديد واضح للاستهلاك، يبدو في قوله: ﴿إلا قليلا مما تأكلون﴾ [يوسف: 47]، وأمر يوسف عليه السلام بحفظ السنابل المخزونة من الغلال كاملة كما هي: ﴿فذروه في سنبله﴾ [يوسف: 47].
فإذا ما انتهت سنوات الإنتاج السبع، بما فيها من جهد متصل دائب، واستهلاك محدود كان على الخطة أن تقابل تحديا ضخما هو توفير الأقوات لسبع سنين عجاف، وبعبارة أخرى: بعد الإنتاج والجهد الدائب في المرحلة الأولى، سيأتي تحمُّل أيضا في المرحلة الثانية، وهو تحمُّل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إلى كل فم.
ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق، ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات وإنما كان يوسف عليه السلام واضحا في قوله: ﴿إلا قليلا مما تحصنون﴾ [يوسف: 48]، فكان هذ الجزء المدخر هو (الخميرة)، التي تستطيع بها الأمة أن تقابل متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف، أي إعادة استثمار المدخرات، ومن طبيعة التطور أن تختلف (تفاصيل الصورة)، ولكن أساسها سيظل قائما عميقا في دينا وتراثنا. وتظهر معالم التخطيط والإدارة في كلمات يوسف عليه السلام، حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة، التي لا يمكن لها أن تكون فعالة بدونها، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على داعمتين وخمسة عناصر؛ أما الدعامتان، فهما التنبؤ والأهداف، وأما العناصر فهي السياسات، والوسائل، والأدوات، والموارد البشرية والمادية، والإجراءات والبرامج الزمنية، والموازنة التقديرية التخطيطية.

إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: إنه لا إدارة فعالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق، وهذا عين الذي زاوله يوسف عليه السلام. لقد جاء إلى الحكم يوم جاء، وبرنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي، كل ذلك في ذهنه قد أُعد إعدادا دقيقا. (مواقف إسلامية، د. عبد العزيز كامل، دار المعارف الطبعة الأولى، 1998م، ص83-86)
دعامتا التخطيط: التنبؤ والأهداف
أما التنبؤ: فاستشراف المستقبل واستشفاف الآتي، وهذا عين ما كان عليه يوسف بما علمه الله -تعالى- ثم نجده أيضا قد حدد الأهداف في مضاعفة الإنتاج وتقنين الاستهلاك أو ترشيده، ثم تخزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية، لأن الهدف العام الكبير ليس شيئا إن لم يقترن بخططه التفصيلية، وهنا يأتي دور السياسات والوسائل، والأدوات والموارد البشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية. هذا هو ما فعله يوسف عليه السلام على ضوء علم الإدارة الحديث، وإن كان القرآن الكريم حصر كلام يوسف في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية الإنسان، لكنها متضَمنة قطعا ضمن الخطة، لأن القرآن لكريم علمنا أن الإنسان إنما هو نفسيته ومضمونه، ومحتواه، وأن تغيير الخارج بدون تغيير الداخل لا يغير نقيرا. لقد وضع يوسف عليه السلام العنصر البشري في خطته لعلمه أنه لا تنجح خطة ليس وراءها الإنسان الذي ينفذها. وأما منهجه في التعامل مع الإنسان فقد ظهر في دعوته للسجينين لتوحيد الله وإفراد العبادة له، وبذلك يكون منهجه في الارتقاء بالإنسان، الذي هو عدة الحضارة ومحرك النهضة ومنفذ البرامج ومنجز المشاريع، ودعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة الإيمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة. إن فائدة التعبير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين على منجزات التغيير الخارجي، صحته وصدقه وأمانته، وإن التغيير يجب أن يمارسه الإنسان في المحتوى النفسي، فيطور وينمي ذاته باتجاه الأفضل، ثم يجسد محتواه النفسي تغييرا خارجيا ويحول إلى ممارسة وتطبيق وتحقيق، لأن أحوال الناس وأوضاعها الاجتماعية من الفساد أو الخير لا تتغير إلا إذا تغير محتوى الإنسان، وما هو عليه من الحق أو الباطل. هذا هو منطق القرآن الكريم، والحياة لكي ترسي نظاما لابد أن تهيئ له إنسانا أولا.
إذا طورنا النظام ومفاهيمه دون الإنسان ومفاهيمه، فسرعان ما يتسرب الفساد من الإنسان إلى النظام فيقيضه، أكثر مما يتسرب الإصلاح من النظام إلى الإنسان فيصلحه؛ لأن الأنانية وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والأنظمة مالم تهذبها التربية الداخلية العميقة والأخلاق الكريمة المبنية على معرفة الله وحبه والخوف منه. (سورة يوسف دراسة تحليلية، ص418-419)
إن الآيات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها نجاح الخطة ارتباطا مباشرا، وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد هو العنصر البشري وعلاقته بنجاح الخطة:

استعداد يوسف عليه السلام على أن يشرف على تنفيذ هذه الخطة، وكان هذا الاستعداد بعد أن بدد ظلال الشك وأوهام التهم عن نفسه، وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة والمخططين، بين حساب الأرقام وحساب الأخلاق، بين الأسس المادية والقيم الروحية في المجتمع بين الدين والحياة.
الجانب الثاني: يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه في عمله فكان من رجال يوسف عليه السلام المعين الصادق على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء.

كما أشارت الآيات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى عليها يوسف عليه السلام خطته، قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ [يوسف: 48]. (مواقف إسلامية، ص86-89)
إنّ من معالم الخطة السياسية والاقتصادية الناجحة أن تكون مبنية على معلومات تقنية صادقة حقيقية لا على الخيال الشعري المجنح، الذي لا يرتبط بالواقع؛ ومن هنا صارح يوسف عليه السلام الشعب بالشدائد التي تنتظره، لكنها ليست المصارحة التي تثبط أو تقعد عن العمل، وإنما التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف من الجهد والطاقة. إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة لا تعطي بل تأخذ وتأكل فهي تقتضي حرصا واحتياطا. (سورة يوسف، دراسة تحليلية، ص427)

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ [يوسف: 48] لا زرع فيهن يأكلن ما قدمتم لهن وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما قدمتم لها لشدة نهمها وجوعها: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُون﴾ [يوسف: 48] أي: إلا قليلاً مما تحفظونه وتصونونه من التهامها، ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدية، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم في سنوات الخصب، وتنقضي وبعدها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء.

 
إن يوسف عليه السلام كان مظلوما مضطهدا في سجن الملك وهو يملك المعلومات والخطط، ما يجعله في محل قوة عند المفاوضة إلا أنه لم يشترط لنفسه شيئا، بل جادت نفسه الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح، والإرشاد بدون أي مقابل من الخلق، وهذه الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة يكرم الله بها من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلما لدعوته، كما نلاحظ أن يوسف عليه السلام كان مستوعبا لفقه الخلاف حيث إن الملك والشعب بعيدون عن منهج، منغمسون في مناهج الجاهلية، ومع هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلاد والعباد في محنة المجاعة والقحط. وهذه السعة في الفهم والاستيعاب العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس ودفعهم نحو تمكين دين الله في الأرض.
وقد كان من ثمار تدبير يوسف وتخطيطه أن حفظ الشعب من الهلاك والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى الرخاء وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي، لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها سواء في جوانب الاقتصاد أو السياسة أو غيرها. (فقه النصر والتمكين، للصلابي، ص282)

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...