استعربوا أولا ثم استغربوا

بواسطة | يونيو 7, 2023

بواسطة | يونيو 7, 2023

استعربوا أولا ثم استغربوا

هناك اليوم جيل من الشباب العربي يحسب أن الرطانة بلغة أوربية، خاصة الإنجليزية، يمنح الشخص عضوية قبيلة المثقفين؛ ومعلوم أن الإنترنت وقوة الإعلام الأمريكي المرئي والأثيري تضافرا لجعل اللغة الإنجليزية مرغوبة في كافة القارات. وعندما يكون الإنسان العربي ثنائي اللغة، أو تعددي اللغة، أي يجيد مثلا العربية والإنجليزية والإسبانية، يصبح مفهوما تداخلُ المفردات من تلك اللغات في كلامه بين الحين والحين، لكنْ لماذا التنازل والطأطأة أمام الإنجليزية لدرجة أن يتكلم العربي عن اللوكيشن وليس الموقع، وعن الجروب وليس المجموعة، وهلم جرا؟!
جميع اللغات الحية تؤثر في غيرها وتتأثر بها، ولا يعيب لغة ما أن تستعير مفردات من لغة أخرى وتُخضِعها إلى قواعد تصريفها، وبالمقابل فإن اللغات تتقوقع عندما لا يكون للناطقين بها منتوج ثقافي حضاري، أو قدرة أو رغبة في التفاعل مع محيطهم الجغرافي؛ ومن بين اللغات المحكية في عالم اليوم، هناك نحو ثلاثة آلاف لغة مهددة بالاندثار في غضون ثلاثين أو خمسين سنة من الآن.

إنجلترا، وهي جزيرة معزولة حتى عن أوربا، لم تنج من “الغزو” العلمي العربي الإسلامي، وأخذت من العربية مئات الكلمات، خاصة تلك المتعلقة بالعلوم وأساسيات الحياة؛ أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قبطان، كيمياء، العنبر، الكحول

وجاء على اللغة العربية حين من الدهر ظلت فيه متقوقعة في محيط جغرافي شديد الضيق، ثم جاء الإسلام وصارت العربية لغة القرآن، وشيئا فشيئا نشأت إمبراطورية إسلامية من بلاد السند شرقا إلى تخوم المحيط الأطلسي غربا، ودخلت شعوب أعجمية كثيرة في دين الله أفواجا، وتبنت اللسان العربي أفواجا، وصارت العربية لغة العلوم النقلية كالفقه والتشريع والتفسير والكلام، والعلوم الطبيعية كالطب والفلك والكيمياء، وبهذا أثَّرت العربية في لغات شعوب تلك الإمبراطورية وأسهمت في إثرائها.
ثم تقلصت تلك الإمبراطورية، ولكن بعد أن تركت بصمات واضحة في اللغات الهندو-أوربية؛ إذ يضم “معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية” نحو ثمانية عشر ألف كلمة ذات أصل عربي، وفي مجال علوم البحار والملاحة هناك نحو أربعمائة كلمة إسبانية جذرها عربي، وهناك نحو مائتين وثمانين كلمة عربية الأصل في اللغة الفرنسية المعاصرة، وأربعمائة ونيف مفردة عربية في اللغة الرومانية.
بل إن إنجلترا، وهي جزيرة معزولة حتى عن أوربا، لم تنج من “الغزو” العلمي العربي الإسلامي، وأخذت من العربية مئات الكلمات، خاصة تلك المتعلقة بالعلوم وأساسيات الحياة؛ أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قبطان، كيمياء، العنبر، الكحول، قالب، الجبر، صك أو شيك، خوارزمية، قهوة، قلوي، قطن، شفـــرة، إكسير، صفر، سُكر، زعفران، كحل.
ثم دارت على العرب الدوائر فصاروا، وهمُ الذين شادوا واحدة من أكبر وأقوى الإمبراطوريات في العالم، جزءا من إمبراطوريات بريطانيا وتركيا وفرنسا، وبدلا من أن يبذلوا المعارف والعلوم للشعوب الأخرى صاروا يستوردونها ومعها المفردات والمصطلحات الخاصة بها، حتى صارت هناك معارضة قوية لتعريب المناهج الدراسية في غالبية الدول العربية، بحجة افتقار العربية للمصطلحات والعبارات الدقيقة اللازمة للتعبير عن دقائق العلوم الطبيعية، بينما كانت العربية هي “أصل” معظم تلك العلوم، عندما كانت ذات حمولة معرفية ضخمة وكانت حيوية ونفّاذة.

انظر كيف يحافظ سدنة اللغة الإنجليزية عليها ويعملون على نشرها، فهناك اليوم أكثر من مليار شخص يدرسون اللغة الإنجليزية في مختلف أنحاء العالم، بينما يبلغ عدد من يستخدمون الإنجليزية لتسيير أعمالهم في هذه اللحظة خارج إنجلترا 960 مليون شخص

وإهمال أمر اللغة العربية تسبب في ضعف حصيلة جيل عربي، ووزر ذلك تتحمله الحكومات التي لا تولي التعليم أهمية قصوى، ولا تحرص على صوغ مناهج ومقررات مدرسية تجعل العربية الفصحى أداة التدريس لكل المواد، على الأقل في مراحل ما قبل الجامعة؛ فما يحدث حاليا هو أن كتب الجغرافيا والتاريخ والفلسفة وغيرها تأتي بلغة عربية سليمة، لكنْ عند التدريس، يقدم المعلمون المعلومات باللغة العامية، ويتقبلون الأسئلة والأجوبة من الطلاب بالعامية.
ثم انظر كيف يحافظ سدنة اللغة الإنجليزية عليها ويعملون على نشرها، فهناك اليوم أكثر من مليار شخص يدرسون اللغة الإنجليزية في مختلف أنحاء العالم، بينما يبلغ عدد من يستخدمون الإنجليزية لتسيير أعمالهم في هذه اللحظة خارج إنجلترا 960 مليون شخص، وتسهم الكتب وأشرطة الفيديو والأفلام الإنجليزية بخمسة مليارات من الجنيهات الإسترلينية في الاقتصاد البريطاني، وتبلغ حصة المواد التعليمية وحدها نحو مليار ومئتي مليون جنيه، ما حدا بالحكومة البريطانية إلى زيادة مخصصات المجلس الثقافي البريطاني، ليكثف من حملاته لتدريس الإنجليزية، بحيث تصبح لغة قطاع الأعمال عالميا بلا منازع، خاصة وأن ظهور الإنترنت جعل تلك اللغة الأداة الرئيسة لنقل وتبادل المعلومات والمراسلات؛ أما الولايات المتحدة، فإن عائداتها من المواد الترفيهية باللغة الإنجليزية، تبلغ تريليونات الدولارات سنويا!. والشاهد هو أن سدنة اللغة الإنجليزية، يستخدمونها لإنتاج مواد تشد الشعوب الناطقة بلغات أخرى وتشجعها على تعلمها.
وصحيح أن من تعلّم لغة قوم أمِن شرّهم، لكنه صحيح أيضا، وكما قلت في هذه المدونة يوم الأربعاء الماضي، أن من أضاع لغته ضاع. وأقول اليوم لمن يتهافتون على اللغات الغربية، ويهملون أمر لغتهم العربية: استعربوا، ثم استغربوا ما شاء الله لكم الاستغراب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...