الأبراج والطوالع والنوازل

بواسطة | أغسطس 9, 2023

بواسطة | أغسطس 9, 2023

الأبراج والطوالع والنوازل

تلمست خطواتي الأولى في بلاط الصحافة، في جريدة الراية القطرية عندما كانت أسبوعية، وكان دوري فيها يقتصر على ترجمة أخبار وتقارير ترد بالإنجليزية إلى العربية. وذات يوم فوجئت بزميل لي يبلغني بأنه سيسافر خارج قطر، ويطلب مني تحرير مادة الأبراج، فقلت له إنني -مع احترامي له- لا أعرف شيئا ولا أريد أن أعرف شيئا عن الأبراج، فابتسم وقال لي: بصراحة، أنا أيضا لا أعرف عنها شيئا ذا قيمة، بل أنقل كلاما من هنا وهناك، وأوزعه على الأبراج كيفما اتفق؛ ولكن طالما أن للأبراج عمودا ثابتا في الصحيفة، فإنني ملزم بتحريره، ولابد أن أجد زميلا يقوم بتلك المهمة في غيابي.
قلت لصاحبي: توكل على الله، واترك أمر الأبراج لي؛ وفي أول تجربة لي معها جلست وعبأت كل برج بتكهنات من شاكلة…
برج الحمل: وظيفتك في خطر بسبب تقارب الجوزاء والعقرب، وهناك من يخطط لتوريطك في مخالفة إدارية قد تكلفك حريتك ما لم يتم فض الاشتباك بين البرجين- برج العذراء: اصرف النظر عن موضوع الزواج، وإذا كنت متزوجا فإن دخول زحل في مدار الزهرة ينبئ عن طلاق عبر المحاكم.
وعلى مدى أربعة أيام متتالية واصلت قصف “البروجيين” بنُذُر أمور خطيرة، ثم استدعاني الأستاذ ناصر العثمان، رئيس التحرير، فأدركت أن الأمر يتعلق بما قمت بـ”فبركته” عن الأبراج، وتوجهت إلى مكتبه وأنا أتمتم “وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، وبالفعل كان الأمر بشأن مادة الأبراج، لأن قراء كثر احتجوا واشتكوا وشكُّوا في محتواها الذي صار خاليا من البُشريات، فقلت له: إنني وبكل صراحة لا أؤمن بالأبراج، وإنني تعمدت جعل كل الأبراج شؤما كي أجعل الناس ينفرون منها، فضحك الأستاذ ناصر وقال: خيرا فعلت، واعتبارا من عدد الغد لا مكان للأبراج في جريدة الراية.
نشأت في بيئة راجت فيها التخاريف حول قدرات بعض الناس على الرجم بالغيب، والتحكم في مجريات الأقدار، وأذكر وأنا في نحو العاشرة من العمر، كيف استضاف بيتنا ذات صباح غجرية تزعم أنها، وباستخدام سبع صدفات بحرية، تستطيع التكهن بحظوظ كل من يرمي بقطعة معدنية عالية القيمة بين أصدافها الملقاة على التراب أمامها، وكنت مع عدد من النسوة والصغار نشكل حلقة حول الغجرية، عندما نثرت صدفاتها وقالت عن واحدة منها جاءت في اتجاهي وهي تشير إليّ: “أبشر، عمرك طويل وأجلك قصير”؛ فما كان من أمي إلا أن نفحتها قطعة نقدية إضافية، بحسبان أنها زفت بشرى لولدها، وتباهيت أمام أحد أقاربي المتعلمين بما قالته الغجرية عني، فإذا به ينسبني إلى دابة من ذوات الأربع، ثم يشرح لي معنى “الأجل” وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان نفسه قصير العمر وطويله، ثم حدثني قريبي طويلا عن الدجل والمشعوذين، وأحابيلهم وميلهم الى العبارات المطاطية الفضفاضة، التي تصادف هوى في نفوس من يطلبون منهم قراءة الطوالع.
خلال تنقيبي عن خطرفات المنجمين عثرت على شخص يسمى الألوسي ويسبق اسمه لقب “دكتور”، ولم أكن قد سمعت من قبل أو من بعد عن وجود جامعة أو روضة في أي بقعة في العالم تعطي الدرجات تحت أو فوق الجامعية في التخريف والشعوذة، ولكنني علمت أنه كان يملك محلا لقراءة الطالع في بغداد، ثم صار يتنبأ بأوضاع الأمور في فنزويلا وكمبوديا وكندا، وكان قد تكهن في مطلع عام 2003 بأن نظام صدام حسين سيعقد سلاما دائما مع الولايات المتحدة، وبعدها بنحو شهرين كانت القوات الأمريكية قد دخلت بغداد، وكان ما كان من أمر القبض على صدام حسين وإعدامه.
ثم اكتشفت ماغي فرح، التي تخرج في ديسمبر من كل عام على جماهيرها بكلام من شاكلة: يتغير الوضع الفلكي وينتقل كوكب الحظ في النصف الثاني من السنة (بمعنى أن بداية السنة ستكون جيدة على أناس ونهايتها جيدة على الآخرين.. ومثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن شخص شرب شوربة ماجي منتهية الصلاحية)، لكنّ هناك برجين يمتلكان حظوظاً كثيرة هذا العام، وسيتخلّصان من كثير من المعاناة والضغوط، وهما القوس والجوزاء؛ أما العذراء فسيكون الحظ بالنسبة إليه تصاعديا.
ولك ان تتساءل: كيف يملك مواليد القوس والجوزاء حظوظا كثيرة، وهم سيتخلصون من كثير من المعاناة والضغوط؟ معنى كلامها أنهم سيعانون من بعض الضغوط والمعاناة حتى وإن تخلصوا من كثير منها؛ وهذا السياق يشي أيضا بأن ماغي لا تعرف معنى كلمة “تصاعدية”.
ترتبط توقعات الأبراج بالتنجيم، الذي يعتمد على مجموعة من التقاليد والاعتقادات المرتبطة بالأوضاع النسبية للأجرام السماوية؛ حيث يتم استنباط تكهنات عن الأمور الشخصية للبشر، وشؤونهم الدنيوية؛ وأول وأهم من يرفض التنجيم القائم على الأبراج هم علماء الفلك، الذين يقوم علمهم على دراسة أحوال وحركة الكواكب والنجوم والمجرات بوسائل متفق عليها ومتعارف عليها، والفلكيون هم من أثبت أن حرفة التنجيم ظهرت أول الأمر في الحضارة البابلية، ويُستدل على ذلك بأن أول وثيقة نشرت عن التنجيم كانت في بابل، ثم اختلط التنجيم البابلي بالحضارة المصرية وخرج لبقية أرجاء العالم.
أما الدليل الحاسم والقاطع على أن الطوالع التي تقوم على ما يسمى بالأبراج كلام يطلق على عواهنه بلا سند علمي، فهو أنك إذا قرأت ما يجيء عنها في سبع صحف صادرة في اليوم نفسه، فإنك ستجد أن كل واحدة منها تختلف عن الأخريات؛ والاعتقاد أن مواليد كل برج لهم صفات معينة مشتركة فاسد، لأنه يولد في الساعة الواحدة الملايين من الناس، وهم لا يحملون صفات مشتركة ومتوافقة؛ ومما يدل أيضا على بطلان ذلك الاعتقاد، اختلاف المنجمين أنفسهم في عدد الأبراج وفي أسمائها، فبينما هي عند البعض: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت؛ نجدها عند الصينيين مثلا: الفأر، والقط، والحصان، والديك، والجاموس، والتنين، والماعز، والكلب، والنمر، والثعبان، والقرد، والخنزير.
أما قول الدين في الأبراج، فهو أنه “يحرم نشرها والنظر فيها وترويجها بين الناس، ولا يجوز تصديقهم، بل هو من شعب الكفر والقدح في التوحيد، والواجب الحذر من ذلك، والتواصي بتركه، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه في كل الأمور”.
ويعتبر الفلكي الشهير أبو ريحان البيروني أول من فرق بين حرفة التنجيم وعلم الفلك في القرن الحادي عشر، بمؤلفه المهم “التفهيم لأوائل صناعة التنجيم”؛ إذ حاول من خلاله تبسيط علم الفلك من خلال رسوم هندسية وعمليات حسابية مبسطة، وقد وثقته منظمة اليونسكو ضمن برنامج ذاكرة العالم في عام 2011، باعتباره أقدم المخطوطات الموجودة باللغة الفارسية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

كنتُ أهاتف الشيخ عبد الوهاب الطريري ونتحدث عن الكتب وشؤون المطابع وقصص من حياة المؤلفين.. والنقاش مع الشيخ الطريري ممتع ومفيد ومليء بالفوائد، فهو يتذوق القصة الجميلة، ويطرب للعبارة الحلوة، ويتأمل في حياة المؤلفين والكُتَّاب، وكمْ حدَّثني عن مقالات الزيَّات وعصر مجلة...

قراءة المزيد
عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
Loading...