الأخذ بالأسباب سبيلٌ واجب للتمكين لدين الله وللمؤمنين

بواسطة | نوفمبر 24, 2023

بواسطة | نوفمبر 24, 2023

الأخذ بالأسباب سبيلٌ واجب للتمكين لدين الله وللمؤمنين

إنّ أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتمّ القرآن الكريم اهتمامًا كبيرًا بإرشاد الأُمة للأخذ بأسباب القوة، وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقة الوصول إلى القوة بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولعل ما نراه من العجز والخذلان المخيف لأمة الإسلام، التي تجاوز تعدادها المليار والنصف، أمام المجازر والإبادة الحاصلة لأهلنا في غزة والتقاعس المؤلم عن نصرتهم، هو مظهر من مظاهر البعد الكبير عن مستوى النصر والتمكين الذي يطمح إليه المسلمون، وما ذاك إلا لأن هناك قصورًا واضحًا وتقصيرًا كبيرًا في الأخذ بأسباب النصر والتمكين على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.
والقرآن الكريم حافل بالآيات التي توجب على المسلمين الأخذ بالأسباب في شتى مناحي الحياة، والعمل على استقصاء تلك الأسباب للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه الأمم والأفراد. قال تعالى: ﴿وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّةٍ ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ اللَّه وعدوَّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللَّهُ يعلمهم وما تُنْفقوا من شيءٍ في سبيل اللَّه يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون﴾ [الأنفال: 60].
ففي قوله: ﴿ما استطعتم﴾: قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم (من قوة ومن رباط الخيل)؛ وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوّة يدخل في طاقاتها، والمراد بالقوة هنا ما يكون سببًا لحصول القوة، ولهذا قال أصحاب المعاني: الأَوْلى أن يقال: هذا عامٌّ في كل ما تتقوّى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الكريمة على المنبر، وقال: «ألا إنّ القوة الرمي»، قالها ثلاثًا، وهذا لا ينفي كون غير الرمي معتبرًا، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجّ عرفة»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدّين النصيحة»، لا ينفي اعتبار غيره، بل يدلّ على أنّ هذا المذكور جزء شريف من المقصود، وكذا هنا. كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرةً لا معرفةً، فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيُعرف مع الزمن المتجدّد، فهي تتّسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات، وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة، وتدخل فيها القوة الاقتصادية والسياسية، والأمنية والإعلامية.. إلخ.
ومعنى ﴿رباط الخيل﴾: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى، ومعنى ﴿وآخرين من دونهم﴾ قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين، وذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال جل شأنه: ﴿تُرْهِبون به عدوَّ اللَّه وعدُوَّكم﴾، ذلك أن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد، مستعدون له، ومستكملون لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك يفيد أمورًا كثيرة منها: أنهم لا يتجرؤون على دخول دار الإسلام، وأنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم باحترام المسلمين، والاستجابة لطلباتهم، وأنه ربما صار ذلك داعيًا إلى الإيمان، لما يرون من قوة أهله وعزتهم، وأنهم لا يعينون سائر الكفار.
وإن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد، أن تجاهد بمالها ونفسها الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارًا عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمتْ هذا العلم وعملت به دانتْ لها سائر العلوم والمعارف.
إن إعداد القوة يستدعي إنفاقًا، وقد تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه، قال تعالى: ﴿وما تُنْفقوا من شيءٍ في سبيل اللَّه يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون﴾ [الأنفال: 60]، وقد جاء التحذير من عدم الإنفاق في سبيل الله، مع بيان أنّ ذلك سبب للإهلاك والمذلّة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تُلْقُوا بِأَيْديكم إِلى التَّهْلُكة﴾ [البقرة: 195]، أي: إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتم أنفسكم، ففي الآية: النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، وقد بيّن أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه سبب نزول هذه الآية، فعن أسلم بن عمران قال: كنا بمدينة الروم (القسطنطينية) فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، فحمل رجل من المسلمين على صفّ للروم حتى دخل فيه، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس؛ إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار، لمّا أعزَّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعتْ، وإن الله قد أعزَّ الإسلامَ وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنـا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يردُّ علينا ما قلنا: ﴿وَأَنْفقوا في سبيل اللَّه ولا تُلْقُوا بِأَيْديكم إِلى التَّهْلُكة﴾ [البقرة: 195]، فكانت التهلكةُ الإقامةَ على الأموال وإصلاحَها وترْكَنا الغزو. وعموم الآية يقتضي الإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصّةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يَقْوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده.
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سُنن التمكين، سنّةَ الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على أفراد الأمة وقادتها العاملين للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها، وإنزالها على أرض الواقع. وإن الله عزّ وجلّ أمرنا بالإعداد الشامل في قوله: ﴿ وأَعدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ ومن رباط الخيل﴾، وإعداد القوة في حقيقته الأخذ بالأسباب الشاملة، كقوة العقيدة والإيمان، وقوة الصف والتلاحم، وقوة السلاح والساعد، وإن الآية الكريمة تحثُّ المسلمين على الإعداد الشامل المعنوي والمادي، والعلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، ويدخل في طياتها الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي والسياسي والأمني والعسكري.
ومـا أحـوج المسـلمين اليوم إلى أن يحصّلـوا كل أسبـاب القوة، فهم يـواجهون نظامًا عـالميًّا وقوىً دوليةً لا تعرف إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار، ويقابلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يـدهم، وبكل مـا اكتشفه الإنسـان، ووصل إليه العـلم في هـذا العصر من سلاح وعتـاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...