الأنبياء الأمريكان الكذَبة

بواسطة | أبريل 17, 2024

بواسطة | أبريل 17, 2024

الأنبياء الأمريكان الكذَبة

هناك مناطق في جنوب وغرب الولايات المتحدة تعرف بالحزام الإنجيلي، وتضم معظم ولايتي تكساس وأوكلاهوما، وأجزاء من ولايات فرجينيا الغربية وميريلاند وأوهايو، وتنشط فيها جماعات بروتستانتية أصولية عديدة، ومن غرائب أهل هذه المناطق “شديدي التديُّن”، أنهم الأكثر “عنصرية وعنفا“، ولا عجب في أنهم المستودع البشري الذي يغذي طموحات أمثال الرئيس الأمريكي السابق – وربما اللاحق- الأخرق دونالد ترامب، الذي تعرض سلفا لإدانات في المحاكم بتهم تتعلق بالعهر والتزوير والحنث بالقسم، وتقديم الرشا للمومسات كي لا يفضحن علاقاته بهن.

وهذا الحزام الذي يدعي أهله التدين الشديد هو الأرض التي أنجبت مبشرين من أمثال القس ديفيد كوبلاند، الذي أصبح مليونيرا من حصائل تبرعات عامة الناس، لينفقها في التبشير برسالة المسيح عليه السلام، فإذا به ينفقها على حيازة مزرعة من 1600 إيكر (الإيكر يساوي 4046 مترا مربعا)، وثلاث طائرات خاصة، قال إنها ضرورية لتمكينه من التحدث إلى الرب، عوضا عن أن “ينحشر وسط الشياطين في الرحلات الجوية التجارية”، أما رصيده النقدي فيقدر بأكثر من 780 مليون دولار؛ ويعد القس تي دي جيكس بائس الحال مقارنة بكوبلاند لأنه لا يملك أكثر من 54 مليون دولار، جمعها من أتباعه البالغ عددهم 30000.

أما بات روبرتسون، وهو أشهر قس استخدم التلفزيون للتبشير والوعظ، فقد نال من الشهرة ما لم ينله أحد من قساوسة أمريكا، لأنه أول من استخدم التلفزيون أداة لتسويق نفسه كواعظ، والتفّت حوله جماعات الهوس الديني المسيحي، عندما صار المروِّج الأول لـ”الإسلاموفوبيا”، وهو الذي بث الشعور بين الناس بأن الإسلام والمسلمين “مصدر خطر”، وظل حتى وفاته عام 2023 يناصر مرشحي الحزب الجمهوري بوصفه حزب المسيحيين الملتزمين، ثم اتضح أنه اختزن لنفسه مئات الملايين ليعيش مرفها منعما.

يتباهى الأمريكان بأنهم أكثر الشعوب المسيحية تدينا، وهذا صحيح، ولكن بمعيار أنهم أكثر ميلا من غيرهم للالتجاء إلى المسيح شفاهة، وأنهم الأكثر ارتيادا للكنائس، وقد ظل الساسة الأمريكيون يلوذون بالإنجيل لإثبات صدقيتهم وحسن سيرهم وسريرتهم، ومن شابه قادته فما ظلم.. ثم تستعرض المشهد الديني في الولايات المتحدة، فيخيل إليك أن كل شريحة وفئة من أهلها لديها مسيح خاص، ففيها اليوم ثلاث وثلاثون كنيسة لا رابط بينها سوى “الرب”، ولكن حتى هنا لا يكادون يتفقون؛ فهناك كنائس يؤمن أتباعها بربوبية المسيح، وأخرى يفصل هؤلاء فيها بين المسيح البشري والرب، ومنها التي يقودها “مسيح معاصر”.

وبمنطق “مفيش حد أحسن من حد”، وعقلية “ونجهل فوق جهل الجاهلينا”، ابتدع بعض الأمريكان السود إسلاما خاصا بهم، ونصّب إلايجا محمد نفسه نبيا مكلفا بإعادة بعث الإسلام، مع بعض التعديلات التي تكفل له مساندة بني قومه السود، فكان أن قال بأن الملائكة سود بينما الشيطان أبيض، وجعل الصوم في ديسمبر من كل عام، ولما صار تلميذه مالكوم إكس يفنّد تلك المعتقدات من زاوية أنها تخالف صحيح الإسلام أمر بقتله.

عبادة الأفراد متأصلة في كثير من الثقافات، خاصة الشرقية منها، وهكذا صار بوذا نبيا رغم أنه لم يدّعِ النبوة، بل قدم نفسه كمصلح سياسي واجتماعي وقائد روحي؛ ومنع الحزب الشيوعي في كوريا الشمالية عبادة “الله”، ولكنّ الزعيم المؤسس لتلك الدولة، كيم إيل سونغ، ارتقى بنفسه إلى مراتب الألوهية؛ وبمجرد أن تسنم ستالين كرسي القيادة في الاتحاد السوفييتي نصّب نفسه مسيح الماركسية، وبما أنه درس اللاهوت قبل اعتناقه الماركسية، فقد كان يعرف كيف يوحي للشعب بأنه يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فقضى بأن الملايين – ومن بينهم كثيرون من كبار معاونيه- خونة وقضى عليهم، وبمزيج من الترويع والبروباغندا نجح في إقناع شيوعيين خارج بلاده بأنه مسيح الماركسية المنتظر.

صارت الأرض الأمريكية منذ عقود مرتعا خصبا لطوائف، لكل منها كهنتها وسدنتها وأنبياؤها الكذبة، فإلى جانب عشرات الكنائس ذات التعاليم الخاصة بكل واحدة منها، تنهض معابد لمعتقدات يبشر بها أشخاص معاصرون، ورغم أن وقائع متلاحقة تثبت أن كثيرا من تلك الطوائف مشبوهة التعاليم، بل وإجرامية الطابع، فإنه ما تكاد تنهار طائفة، حتى تقوم بدلا عنها بضع طوائف تختلف عن تلك المنهارة في أمور، وتتفق معها في الكثير.

في سبعينيات القرن الماضي كانت طائفة بوابة السماء هي “الموضة الأمريكية”، ثم – وفي مارس من عام 1997- أمرهم مرشدهم الروحي بتناول أقراص مخدرة، ووضْع أكياس بلاستيكية حول رؤوسهم، فكان أن مات منهم 39 على الفور. وكان جيمس وارين جونز قسّا معتمدا في مدينة سان فرانسيسكو، ولكنه رأى أن يصبح زعيما روحيا ذا تعاليم خاصة، ولهذه الغاية هاجر مع مريديه إلى غيانا في أمريكا الجنوبية، ولما أرسلت المباحث الأمريكية فريقا للتحقيق في ما تردد عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المعسكر الذي أقامه لأتباعه، أمر جونز بقتل أعضاء الفريق، ثم أقنع جميع الأتباع بتناول سم السيانيد فكان أن مات 918 منهم على الفور، ومن بينهم 304 أطفال.

في فبراير من عام 1993، توجهت الشرطة الاتحادية لاعتقال  ديفيد كوريش زعيم طائفة الداووديين في واكو في ولاية تكساس، بعد وصول معلومات تفيد بأنه يتحصن وأتباعه في مبنى أشبه بالقلعة، وأن لديهم مخزونا هائلا من الأسلحة غير المرخص بها، وأن النساء الداووديات من جميع الأعمار يتعرضن للعنف الجنسي، وصمد كوريش وأصحابه في وجه الحصار الأمني 51 يوما، ولكن بمجرد أن نفذت مؤنهم أشعل كوريش النار في المبنى، فكان أن هلك 75 منهم حرقا، واتضح أن كوريش اختار وسيلة أسرع للموت بأن أطلق النار على رأسه.

وهكذا، فإن الأمريكان – وكما جعلوا أنفسهم شرطة العالم- نصبوا أنفسهم قضاة في كل مجال، يحتكمون إلى نصوص مطاطية تجعل منهم أخيار العالم، ويرون من يخالف نهجهم أعضاء في محور الشر، ولهذا يرمون غيرهم بشرورهم وينسلون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...