الانفراد بالرأي وخطورته في التاريخ السياسي الإسلامي

بواسطة | سبتمبر 24, 2023

بواسطة | سبتمبر 24, 2023

الانفراد بالرأي وخطورته في التاريخ السياسي الإسلامي

إن من علامات كمال ونضج العقل السلطوي، ورحابة الأفق السياسي، الاستفادة من أصحاب العقول الراشدة، ذوي البصيرة في الحل والعقد، وأهل العلم والخبرات الواسعة؛ وإن المعتدّ برأيه، المغرور بنهجه وطريقته هو ذلك الشخص الذي غطى هواه عقلَه، فلا يرى إلا نفسه، ويعيش في تخبطات إدارته للأمور.
وقد ضرب لنا الرسول الأعظم ﷺ أجلّ الأمثلة في الأخذ بالرأي والمشورة، فكان ﷺ يأخذ برأي الصحابة في مختلف الأمور، ومنها الأمور السياسية في شؤون الحكم وضبط أمور الدولة، وجاء من بعده الصحابة -رضي الله عنهم- فكانوا نِعم المثال للقادة  السياسيين المؤمنين بأهمية استشارة أهل العلم والخبرة في أي أمر من الأمور، من أجل الوصول إلى الأصلح والأسهل.. فالشورى فرض ومبدأ إسلامي أصيل، وقاعدة مهمة من قواعد إدارة حكم الدولة الإسلامية.
وكما يقال، فإن الأمور تُعرف بضدها، ففي التاريخ نماذج ابتعدت عن هذا المسلك الأفضل، وانتهجت نهج السلطة المستبدة في إدارة شؤون الناس، فكانت ثمرة ذلك التخبط في إدارة الدولة. ومن الحكايا التي تعرض في هذا السياق حكاية السلطان محمود الغزنوي، فقد كان معتدّا برأيه متسلطا، حتى وإن كان يشعر في قرارة نفسه بالخطأ.
من المواقف التي تُظهر هذا الجانب في شخصية السلطان محمود قيامه بعزل الوزير (أحمد بن حسن الميمندي) من منصبه بسبب اعتراضه على بعض أوامره؛ مع أن وزيره هذا تألّق في الفصاحة والكفاءة، والقدرة على حسن تصريف الأمور، وتقلد عدة مناصب إدارية ووزارية مهمة، وعلى الرغم من ذلك تخلص منه السلطان محمود، لا لشيء إلا أنه قد يخالفه في الرأي، وقد ندم السلطان بعد ذلك على عزله للوزير.
وقد ذكر الأمير (نصر بن سيكنكين) أخو السلطان محمود وقائد جيشه، أن السلطان سافر في أحد الأعوام إلى مدينة غزنة -في افغانستان اليوم- فعرض عليه تقديم المشورة لمعرفته بالطرق والآليات التي سيحتاجها السلطان في الطريق، فرد السلطان: دبر أمر نفسك ولا شأن لي بمشورتك. ومرّةً كان السلطان ذاهبا إلى مدينة (سومنات)، إحدى مدن الهند، فحذره نصر بن سيكنكين من المرور في الوادي الضيق، ولكن السلطان لم يستمع لنصيحة هذا القائد النصوح فهلك عدد كبير من الجنود! ثم بعد ذلك حمَّل المسؤولية لقائد جيشه تهربا من المساءلة!
بذلك نجد أن السلطان محمود استبد برأيه عن العلماء والوزراء وقادة الجيش، ولم يستمع لنصائحهم، ولم يجرؤ أحد من كبار رجال الدولة على مناقشته أو معارضته، بل إن بعضهم تعرض للحبس والعقاب فقط لأنه أبدى النصيحة، ومنهم العالم الكبير البيروني، الذي حُبس لمّا أجاب عن أسئلة السلطان! كما تعرض الوزير أحمد بن حسن الميمندي -كما أسلفنا- للعزل والحبس لمعارضته أوامر للسلطان، على الرغم من أنه كان يتمتع بدرجة عالية من الكفاءة والخبرة.
ومن أصحاب الاستبداد بالرأي أيضا، السلطان مسعود الغزنوي، الذي أراد أن يسافر إلى الهند، فنصحه أمراؤه وأركان دولته المُخلِصين، وأشاروا عليه بضرورة التوجه أولا إلى بلاد خراسان لصد السلاجقة الذين استفحل خطرهم، فرفض الأخذ برأيهم وتوجه إلى إحدى قلاع بلاد الهند لمحاربة أعدائه، وفي غيبته قويَ شأن السلاجقة، وهزمت الجيوش الغزنوية.
فالاستبداد بالرأي من ذوي السلطة والقيادة له عواقب وخيمة على مصلحة العباد والبلاد، لذلك جاءت الشريعة بتعزيز المشورة، والحث على الأخذ بالرأي، والحوار والمناقشة من أجل الوصول إلى أفضل القرارات .
يقول أمير المؤمنين عمر: “لا خير في أمرٍ أُبرم من غير شورى”، ويقول: “الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرارٌ لا يكاد ينتقض”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...