البريميرليغ.. جنة الإنجليز وجحيم أوروبا

بواسطة | مايو 29, 2023

بواسطة | مايو 29, 2023

البريميرليغ.. جنة الإنجليز وجحيم أوروبا

عندما تم الإعلان عن بطولة دوري السوبر الأوروبي، هبّ مسؤولو الاتحادات المحلية والقارية ورؤساء روابط الأندية بسرعة للإدانة بشكل صريح، متعهدين بمحاربتها بكل قوة. ولكن، في بريطانيا تم التعامل مع هذا الموقف بشكل مختلف تماما، فقد قرر رئيس الوزراء بوريس جونسون أن يتصدى لهذه البطولة بنفسه، وتوعد الأندية الإنجليزية المشاركة بعقوبات وتعقيدات، منها عدم منح أي لاعب غير بريطاني تصريح عمل ليمثلهم، وهذا يعني هدم قوة هذه الأندية وتقييد حركتها بصفتها أندية إنجليزية.
خضعت الأندية الإنجليزية لهذا التدخل القوي، وانسحبت جميعها بعده، مما أدى إلى انسحاب الأطراف الأخرى أيضا، وتحولت البطولة في نظر العديد من الأشخاص، إلى مجرد فكرة أو حلم في أذهان المؤمنين بها؛ وأحد هؤلاء هو رئيس ريال مدريد، فلورنتينو بيريز، الذي وصف وضع كرة القدم الحالي، في إحدى تصريحاته عن السوبر الأوروبي، بأنه مريض، واعترف بأن الحل الوحيد لمواجهة البريميرليغ هو هذه البطولة.

في فبراير 2023، نشرت صحيفة “لي موند” الفرنسية تقريرا حول نشاط الأندية الإنجليزية في سوق الانتقالات، أشار إلى قيام بعضها بدفع مبالغ مجنونة للتنافس على لاعبين موهوبين

يردد الخبراء أن البريميرليغ يساهم سنويا بما يقارب 10 مليارات دولار، كقيمة مضافة للاقتصاد البريطاني، وهذا رقم يعود لدراسة عام 2020؛ وهو على الأغلب قد ارتفع منذ ذلك الحين بشكل أكبر، نظرا لتعزيز قوة البطولة وتوسع انتشارها. ويصنّف موقع “softpower30″، المتخصص في تصنيف القوة الناعمة، البريميرليغ كواحد من أهم العناصر الثقافية التي تعزز قوة بريطانيا الناعمة على المستوى العالمي، وهي التي تحتل المركز الثاني في القائمة حاليا.
تحت ضغوط الحقائق الاقتصادية والثقافية والسياسية للبريميرليغ، قام رئيس وزراء دولة عضو دائم في مجلس الأمن بالتدخل الشخصي لإيقاف السوبرليغ، ولم تكن دوافعه مرتبطة بحبه لكرة القدم أو رغبته في الحفاظ على اللعبة كنشاط نظيف أو للفقراء، بل كان يهدف إلى الحفاظ على ما يمكن وصفه بـ “جنة كرة القدم الإنجليزية”، واستمرار تمددها لتكون “جحيم أوروبا الحقيقي” في هذه الأيام.
في فبراير 2023، نشرت صحيفة “لي موند” الفرنسية تقريرا حول نشاط الأندية الإنجليزية في سوق الانتقالات، أشار إلى قيام بعضها بدفع مبالغ مجنونة للتنافس على لاعبين موهوبين، حيث استعرضت الأندية الإنجليزية في السنوات الأخيرة قوتها المالية في السوق؛ وعلقت الصحيفة على هذا الأمر قائلة: “قوة الدوري الإنجليزي المالية تسحق كرة القدم الأوروبية”، واستشهدت بتصريح رئيس رابطة الدوري الإسباني، خافيير تيباس، الذي وصف تصرفات الأندية الإنجليزية في السوق بأنها تشبه تعاطي المنشطات، وكان يقصد من ذلك أنهم يدفعون مبالغ ضخمة ويتحملون خسائر كبيرة، ومع ذلك يستمرون في هذا النهج.
وأصدرت جميع الأطراف في أوروبا تصريحات تشير إلى أنه لم يعد ممكنا منافسة الأندية الإنجليزية في سوق الانتقالات؛ حتى إن دخول نادي متوسط مثل ويستهام يونايتد على خط التعاقد مع لاعب يريده كبار إيطاليا، على سبيل المثال، ينتهى عادة بفوز الفريق الإنجليزي بالصفقة؛ وهذا التفوق يمتد أيضا لسوق لمدربين والإداريين، ما يعني أن التطور في البريميرليغ يكون شاملا وأسرع، فيما يتعلق بالجودة في الملعب والمهارات الإدارية، بالمقارنة مع البطولات الأخرى.

يعرف عاشق كرة القدم تصريح مارادونا الشهير: “جئت لألعب في جنة كرة القدم”، وكان يقصد حينها الدوري الإيطالي.

التطوير المستمر بالجودة والعقول، نتج عنه مشاركة الأندية الإنجليزية في نهائي دوري أبطال أوروبا خلال كل موسم منذ 2018، ما عدا نهائي 2020 الذي جاء بشكل مختلف نتيجة جائحة كورونا، وهم يتطورون أيضا على مستوى رصد اللاعبين الشباب المميزين في أوروبا، ويحرصون على تبني كافة أشكال التكنولوجيا التي تساعد على تطوير المواهب.
ويعرف عاشق كرة القدم تصريح مارادونا الشهير: “جئت لألعب في جنة كرة القدم”، وكان يقصد حينها الدوري الإيطالي. ومع مرور الوقت تحولت هذه “الجنة” إلى إنجلترا، وأصبح حلم كل لاعب أو مدرب هو الوصول إلى البريميرليغ، حيث يمكنهم اختبار قدراتهم الكروية من جهة، والحصول على التقدير الإعلامي والمالي من جهة أخرى.
تطورت هذه الجنة في إنجلترا، بطريقة دفعت لاعبين دوليين معروفين بأكبر المنتخبات، لتمثيل فرق إنجليزية لا تنافس على ألقاب، ولا تشارك في دوري أبطال أوروبا؛ حيث بات النظر إلى البريميرليغ كقمة الهرم، الذي تكفي المشاركة فيه ليعرفك العالم ويدرك موهبتك، ولو لم تشارك في دوري الأبطال؛ وما معرفة الناس حاليا بأسماء نجوم كل فريق في البريميرليغ إلا دليل على ذلك؛ في حين لا يعرف الناس نجوم الفرق غير الكبيرة في باقي الدوريات الأوروبية.
وترافق هذا التطور تغطية إعلامية عالمية مكثفة، جعلت البعض يردد مقولة، تعجبني وأصدقها، مفادها: “الدوري الوحيد الذي تشاهده كاملا دون أن تشجع فيه أي فريق”، فقد نجح الإنجليز في إنشاء قصة لكل لاعب وفريق وملعب لديهم، وهذا جعل مشاهدة الدوري الإنجليزي الممتاز حدثا ترفيهيا بدلا من أن يكون مجرد حدث رياضي؛ وما شهرة لعبة الفانتازي لديهم إلا صورة من صور صناعة هذا المشهد الترفيهي.

الصورة ليست جميلة في الدوريات الأوروبية الكبرى؛ فالطليان لديهم مشاكل مالية عميقة، ويكونون سعداء ببعض المواسم الجيدة فقط، وفي إسبانيا ظهرت هشاشة الوضع الاقتصادي لكل أنديتهم باستثناء ريال مدريد

وأخيرا، استطاعت قوة البريميرليغ تحويل مسلسل متعلق بالبطولة ليكون من أنجح المسلسلات الكوميدية في السنوات الأخيرة، وأقصد هنا مسلسل “تيد لاسو”، الذي شارك فيه بيب جوارديولا شخصيا كممثل رمزي في إحدى حلقات الجزء الثالث.
في المقابل، الصورة ليست جميلة في الدوريات الأوروبية الكبرى؛ فالطليان لديهم مشاكل مالية عميقة، ويكونون سعداء ببعض المواسم الجيدة فقط، وفي إسبانيا ظهرت هشاشة الوضع الاقتصادي لكل أنديتهم باستثناء ريال مدريد، وفشلت كافة الأفكار الاستثمارية في الدوري الألماني في ظل رفض غالبية الأندية لأي تحول عن النموذج الشعبي هناك، وهذا دفع ممثلين عن إدارة بايرن للتصريح بشكل واضح: “الفارق مع الأندية الأنجليزية سوف يواصل التوسع”.
يلخص هذه الفجوة المتزايدة كلام خبير اقتصاد كرة القدم، كيران ماغواير، “هناك نمو مستمر في البريميرليغ؛ بدأ الأمر بملاك أندية مصنفة كمليونير، ثم تحولوا إلى أصحاب مئات الملايين، ثم مرحلة الملياردير، والآن نحن في مرحلة متعددة المليارات”. يعني كلام ماغواير ببساطة أن انجلترا نجحت بجذب أقوى المستثمرين من خلال بيئة قانونية رياضية سليمة، وأجواء رياضية واعدة، وتسويق عالمي يستحق المغامرة. وكنتيجة لذلك، أصبحت بطولتهم الرائدة، دون شك، أمام جميع البطولات الأخرى.
في الختام، لا بد من لفت الانتباه إلى أن فترة كورونا كانت الخط الفاصل في وضوح معالم هذه الجنة، فمثلما كانت الأزمة المالية 2008 فرصة لصعود نجم الليغا القوي، فإن الجائحة كانت اختبارا لسلامة النظام الكروي في كل بطولة، وهنا وجد الإنجليز فرصة مثالية للتقدم بالسباق نحو اهتمام المشجعين بشكل ساحق.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...