التاريخ الهجري .. الهوية الغائبة

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 30 يوليو, 2023

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 30 يوليو, 2023

التاريخ الهجري .. الهوية الغائبة

يحكى عن الإمام الرازي أنه قال: واعلم أن مذاهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا حكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام؛ فأما عن اليهود والنصارى فليس كذلك.
يُنظَر إلى الدين أو المعتقد، واللغة الدارجة، والتاريخ باعتبارها مقومات صناعة الهوية؛ ولكي تحتفظ أي أمة بهويتها و تاريخها لا بد لها من تقويم خاص، تسجل به الأحداث والانتصارات، وتضبط به الأعياد والشعائر، وتحافظ من خلاله على ذاكرتها. والتقويم الهجري هو رمز وهوية لأمة العرب المسلمين، وهو واحد من المؤشرات التي يُستدل بها على قوة الدولة؛ فقد ظل التقويم الهجري سائدا في الدولة العربية الإسلامية، تُؤرخ به الأحداث والوقائع، والمواليد والوفيات، منذ اعتماده في الخلافة الراشدة حتى سقوط الدولة العثمانية.
ولم يكن للعرب قبل الإسلام تقويم ثابت ومعروف، واستمر الحال هذا في عهد الرسول ﷺ، ثم في خلافة أبي بكر الصديق وحتى السنة الرابعة من خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وتحديدا في سنة 17هـ؛ وقبل ذلك كان العرب يسمون السنة بالأحداث المهمة والشهيرة التي وقعت فيها ويؤرخون بها، ومن ذلك تسميتهم “عام الفيل”، وعام “الإذن بالرحيل” إشارة إلى السنة الأولى من استقرار الرسول في المدينة بعد هجرته إليها، بينما سُميت السنة الثانية بعام “الأمر بالقتال”، أي الجهاد ضد قريش في موقعة بدر.
وحكاية التقويم الهجري وظهوره اقترنت بحادثة حصلت في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ فقد وصل في سنة 17هـ خطاب إلى أبي موسى الأشعري عامل البصرة مؤرَّخ في شهر شعبان، وهو أرسله بدوره إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستفسره عن الكتب التي تصل مؤرخة بالأشهر دون ذكر السنوات، وهذا من شأنه أن يُحدث خلطا بين الرسائل؛ فأرشد هذا اللغط عمر بن الخطاب لأهمية تأريخ الحوادث في الدولة بشكل خاص بالمسلمين. وقبل ذلك لم يستحسن عمر بن الخطاب تقويم اليهود الذي كان شائعا في ذلك العصر، ويبدأ بميلاد الإسكندر الأكبر، ورفض تقويم الفرس الذي يبدأ بتولية كل ملك وينتهي بوفاته، ورفض تقويم المسيحيين الذي يبدأ بميلاد المسيح ويتبع السنة الشمسية.
فكان أن جمع عمر بن الخطاب أهل الشورى، وعرض عليهم رغبته في إحداث تقويم إسلامي يؤرخون به، وقد عرض المجتمعون أربعة أحداث مهمة في تاريخ الإسلام والمسلمين وهي: مولد الرسول ﷺ، ومبعثه، وهجرته، ووفاته؛ ثم وجدوا أن مولد الرسول ومبعثه ليسا محددين بالسنة تحديدا دقيقا، فاستُبعد الاقتراحان، الأول والثاني، وكذلك رفض المجتمعون التقويم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يليق أن يبدأ تاريخ المسلمين بوفاة نبيهم، فالإسلام ودولته العظمى باقيان ما دامت السماء والأرض؛ ليستقر الأمر على أن أفضل تأريخ للمسلمين هو التأريخ الذي يبدأ بهجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة، وكان هذا رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، على اعتبار أن الحدث مهم في تاريخ المسلمين، وترتب عليه نشر الإسلام ونجاح الدعوة، وقيام دولة عربية إسلامية مكتملة الأركان في المدينة؛ وفي ذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: “إن الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها”.
كما أن حادث الهجرة يعتبر نقطة فارقة في تاريخ الأمة، حولت المسلمين من الضعف والخوف إلى الأمن والأمان، ومن الذل والعبودية إلى العزة والحرية، وحولتهم كذلك من القلة إلى الكثرة، ومن الإسرار بالعقيدة إلى الجهر بشعائر الإسلام؛ فكانت الهجرة انتصارا لسمو النفس البشرية، التي استطاعت أن تترك المال والأولاد والأهل والأرض من أجل هذا الدين. وقد رأى الصحابة أن يبدأ التقويم الهجري بشهر المحرم وكان هذا رأي عثمان بن عفان رضي الله عنه في الاجتماع، لأن هلال المحرم هو أول هلال استهله المسلمون بعد الهجرة، كما أنه يأتي بعد انصراف المسلمين من رحلة الحج، وهو من الأشهر الحرم.
وبذلك يعتبر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هو أول من وضع التقويم الهجري للدولة الإسلامية، وقد بدأ المسلمون يعملون بهذا التقويم منذ سنة 17هـ، وهو ما زال مستمرا في البلاد الإسلامية، ولكن -للأسف- بدون اهتمام كبير من المؤسسات الحكومية لاعتماده بشكل رسمي، باستثناء ما كان من نهج للمملكة العربية السعودية في نظام تقويمها الرسمي؛ وإننا نجد أن بعض الشعوب العربية ما زالت تجهل أسماء الأشهر وأبعاد كل شهر وأحكامه، إلا ما كان من رمضان فإنه شهر عالمي في حضوره العام.
والجدير بالذكر أن العرب قبل الإسلام عرفوا التقويم القمري، ولكن شهوره كانت تختلف من قبيلة لأخرى، وقد اجتمع سادة العرب في مكة قبل 150 عاما من الهجرة النبوية، واتفقوا على توحيد أسماء الأشهر العربية، فصارت كما نعرفها اليوم.
ولقد تعرضت أمتنا الإسلامية لمؤامرات عديدة لطمس الهوية الإسلامية؛ ومن هذه المؤامرات طمس التأريخ الهجري؛ ففي القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) أرادت الدولة العثمانية تحديث جيشها وسلاحها، وطلبت المساعدة من الدول الأوربية العظمى، فتمت الموافقة على مساعداتها بشروط، منها  إلغاء التقويم الهجري في الدولة العثمانية، ومع الأسف وافقت الدولة العثمانية على ذلك. وعندما أراد خديوي مصر أن يستقرض مبلغا من الذهب من إنجلترا وفرنسا لتغطية مصاريف فتح قناة السويس، اشترطت عليه الدول الأوربية عدة شروط، منها إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتم إلغاؤه أيضا -مع الأسف- سنة 1292هـ/ 1875م.
والتقويم الهجري -أو القمري- هو تقويم يعتمد دورة القمر حول الأرض كل 354 يوما، تحدد 12 شهرا، وهذا التقويم يتماشى مع مناسك وشعائر المسلمين في الصيام، والحج، وعيد الفطر، وعيد الأضحى وغيرها من المناسك الإسلامية؛ قال تعالى: {هو الَّذي جعل الشٌّمس ضياءً والقمر نوراً وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [سورة يونس: ٥]، فهو تقويم رباني بلا خلاف، وهو معتمد من الإرادة الربانية، فقد قال تعالى:{إن عدَّة الشُّهور عند اللَّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السَّماوات والأرض منها أربعةٌ حرم ذلك الدِّين القيِّم  فلا تظلموا فيهنَّ أنفسكم} [سورة التوبة: ٣٦].
 وختاما نستطيع أن نقول: إن التأريخ الهجري والتقويم الهجري يعبر عن هوية الأمة الإسلامية، وهو رمز لها يجب الحفاظ عليه من الذوبان والانطماس، وكشف المؤامرات التي تهدف إلى طمسه لأنه هو الذي يُذكِّر الأمة بأمجاده؛ وعلينا كمسلمين إحياء حادثة الهجرة النبوية بما يتناسب مع عظمة الحدث الذي غير مجرى التاريخ الإنساني، وترتب عليه قيام الدولة العربية الإسلامية، التي غزت البر والبحر، وخاطبت الملوك والأمراء، وبنت الكيان الإنساني المتكامل روحا ومادة ، ثم أصبحت فيما بعد إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وقدمت للإنسانية حضارة عظيمة أبهرت العالم.. فعلينا الاهتمام بهذا التاريخ، وإنه لأجدى للمؤسسات العربية بكافة أشكالها أن تهتم بهذا التقويم بجانب التقويم الميلادي، وأن تؤرخ به لأحداثها ومسيرتها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...