التخييل الحسي في القرآن

بواسطة | فبراير 5, 2024

بواسطة | فبراير 5, 2024

التخييل الحسي في القرآن

تتناول هذه المقالة فن التصوير في القرآن الكريم، حيث يعتبر التصوير اللغوي أسلوبًا بارزًا في البيان القرآني. سنقوم بفحص تحليل سيد قطب لفن التصوير والقواعد التي يرسمها للبيان بشكل كامل.

فن التصوير في القرآن – إبداع الصور اللغوية وتفرد الكلمات

التصوير يعد الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، والقاعدة الأولى فيه للبيان.. هكذا يخبرنا سيد قطب عبر تحليله الفني والأدبي للقرآن الكريم في كتابه “التصوير الفني في القرآن”؛ وهو لا يكتفي بذلك، بل يؤسس لقواعد هذا التصوير ويرسم الصورة كاملة.

وهو في بيان ذلك يقول: “إنه يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، كما يعبر بها عن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت لها كل عناصر التخييل”.

في القرآن السور صامتة والمشاهد قليلة، وغرضها الفني يقتضي الصمت والسكون، لكن أغلب سور القرآن فيها حركة مضمرة أو ظاهرة، هذه الحركة تنبض بالحياة، وهي غير مقتصرة على القصص والحوادث أو مشاهد يوم القيامة وصور النعيم والعذاب، لكن لها مواضع أخرى، ذلك أنها تظهر للعيان في حركتها نابضة بالحياة، وهذا هو التخييل الحسي، حيث يبث الحياة في العديد من الصور مع اختلاف ألوانها وأشكالها أثناء تصويرها.

التخييل تجده في إلباس المواد الجامدة ثوب الحياة الإنسانية، بل وإلباسها طبيعة الإنسان نفسه وصفاته، فإذا بك تجد الصبح له فم يتنفس به {والصُّبح إذا تنفَّس}، هنا يقدم لنا المولى الصبح حين تبدأ الحياة اليومية ويبدأ الضوء ينسل على الأرض فتتنفس الأرض، تنبض بالحياة، ليدب النشاط مع خروج النفس.. ثم صورة الليل المسرع في طلب النهار، لكنه لا يستطيع {يغشي اللَّيل النَّهار يطلبه حثيثاً}، أو أن هذا الليل يسري {واللَّيل إذا يسر}، يعطيك إحساس سريان الليل في الكون، ثم هذا الحديث مع الأرض والسماء مثل الحوار مع أي شخص عاقل يعقل ويبصر ويسمع ويجيب {ثمَّ استوى إلى السَّماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}.

هناك أيضا “التجسيم”، والتجسيم في القرآن يعني تجسيم المعنويات المجردة ليُبرزها لنا، بل حتى نراها في مواضع حساسة جدا، ثم نرى الشمس والقمر والليل والنهار في سباق طوال الوقت وفي كل الحياة {لا الشَّمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا اللّيل سابق النَّهار}، كذلك تصوير الأرض الجامدة مثل الكائن الحي، تهتز وتربو {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت وربت}. وتصوير جهنم أنها نهمة متغيظة، لا تشبع من المجرمين، تراهم من بعيد فتتغيظ وتفور {يوم نقول لجهنَّم هل امتلأتِ وتقول هل من مزيد}، وهي {إذا رأتهم من مكان بعيدٍ سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً}؛ وهذه الرياح يصورها القرآن بأنها تلقح وتنتج {وأرسلنا الرِّياح لواقح}، بما تحمله من ماء.

هناك لون آخر من ألوان التخييل، وهو الصور المتحركة، مثل الذي يعبد الله على حرف، أو المسلمين قبل دخولهم الإسلام وهم {على شفا حفرةٍ من النَّار} أو ذلك الذي {أسَّس بنيانه على شفا جُرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنّم}. قطب يرى أن هذه كلها صور تخيل للحس، حركة متوقعة في كل لحظة، وقوله سبحانه {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربِّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربِّي ولو جئنا بمثله مدداً}، فـ”الخيال يظل يتصور تلك الحركة الدائبة: حركة الامتداد بماء البحر لكتابة كلمات الله، في غير ما توقف ولا انتهاء، إلا أن ينتهي البحر بالنفاد!”.

كذلك {ونُردُّ على أعقابنا} حركة حسية للارتداد في موضع الارتداد المعنوي، وتمنح الصورة حياة محسوسة. وتأمل الصورة في حركتها السريعة في الآية {فكأنَّما خرَّ من السَّماء فتخطفه الطَّير أو تهوي به الرِّيح في مكانٍ سحيقٍ}.

إنه إبداع الكلمات والصور التي تأخذك بعيدا، تتأملها عبر لغة ومفردات تغوص في بحر اللغة، لم يأت القرآن صلبا جامدا بل جاءت أوامر الله ونواهيه وخلق الحياة لنا عبر صور لغوية، تأخذ الحس والعين والفؤاد.. فما أعظم تجلّي الله في كلماته!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...