التصوير الفني في القرآن

بقلم: سامي كمال الدين

| 29 يناير, 2024

بقلم: سامي كمال الدين

| 29 يناير, 2024

التصوير الفني في القرآن

إن تفحص الجمال الفني في القرآن يكشف عن روعة التصوير وإعجاز الموسيقا اللغوية، حيث يتناول كتاب الشيخ سيد قطب “التصوير الفني في القرآن” هذا الأمر بأسلوب رائع ويستعين برأي الموسيقار محمد حسن الشجاعي في بعض فصوله.

جمال الصور وإعجاز الموسيقا اللغوية

إذا أردت البحث عن الجمال في القرآن، وموسيقا الكلمات، والصور، فأدعوك لقراءة كتاب الشيخ سيد قطب “التصوير الفني في القرآن” الذي استعان في بعض فصوله برأي الموسيقار محمد حسن الشجاعي.

ففي الكتاب، الذي أهداه قطب إلى والدته، يتناول آثار الإعجاز الفني في كتاب الله، وصوره الفريدة، والتناسق الفني فيه، وطريقة إخراجه، وقام بحث سيد قطب حول أن “الصور في القرآن ليست جزءا منه يختلف عن سائره، إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض – فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال- فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب، ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز”.

لقد سحر أسلوب القرآن العربَ منذ اللحظة الأولى، سحر من آمن ومن ظل على كفره، من عمر بن الخطاب إلى الوليد بن المغيرة. فعندما سمع الوليد بن المغيرة شيئا من القرآن رق قلبه، وقالت قريش لقد صبأ الوليد، ولتصبون قريش كلهم؛ لذا طلبوا من أبي جهل أن يجتمع معه ويطلب منه أن يهجو القرآن. قال الوليد: ” فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا، والله: إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى”. قال أبو جهل: “والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه”، قال: فدعني أفكر فيه؛ فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه؟”. وقد ذكر القرآن هذه القصة في سورة المدثر، فقال عنها {إنَّه فكَّر وقدَّر* فَقُتِل كيف قدَّر* ثمَّ قُتل كيف قدَّر* ثمَّ نظر* ثمَّ عبس وَبَسَر* ثمَّ أَدْبر واستكبر* فقال إِنْ هذا إلَّا سِحرٌ يُؤثَر* إِنْ هذا إلَّا قوْل البشر* سأُصْليه سَقَر*} [سورة المدثر: 18- 26].

عمر بن الخطاب كان مثل الوليد، استمع القرآن – أو قرأه.. حسب الروايتين- فرقّ قلبه تأثُّرا وأسلم، وهذا يبين مدى تأثير القرآن في الناس الذين آمنوا والذين لم يؤمنوا.

يرى قطب أن التصوير الفني هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، لأنه يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، وعن النموذج الإنساني والحالة النفسية “فإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات وينسى المستمع أن هذا كلام يُتلى، ومثل يُضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو… فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني للحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن”.

التصوير في القرآن تصوير حي، باللون، بالصوت، بالحركة، بالنغمة، بالتخييل وبالموسيقا “كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل… ونغم العبارات، وموسيقا السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان”.

نعم، يصور القرآن كل شيء عبر كلمات، حين تتأملها تجدها حية تسعى أمامك، وفيها الحالات النفسية والاجتماعية والمعنوية، حياة الإنسان وحيرته في دنياه وفكره، تصوراته وأوهامه، خلجات نفسه ويقينه، إنه يقدم عبر آياته عوالم النفس الإنسانية، عوالم الكون في كلام ليس كالكلام، كلام ليس فيه جمود، بل كلمات تحيا، وصور مباشرة وغير مباشرة {ومن النَّاس من يعبد الله على حرف}، {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا}، {أفمن أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أم من أسَّس بنيانه على شفا جُرُفٍ هارٍ فانهار به في جهنَّم}، تأمل الصور الإبداعية في: “حرف”، “حبل”، “بنيانه”، إنها لوحات وصور وقصص تتقافز أمام عينيك في جمل تعبيرية جميلة مترابطة، لم يأت القرآن ليطلب التشريع في جمل أمر و”خَلاص”، بل صاغ التشريع والأوامر والنواهي في كلمات مصورة بديعة، يعطيك الحكمة ويكشف دواخلك في لحظات الضعف والقوة، فاذا بعضهم في البحر الذي يموج ماؤه بهم، ويكاد يغرقهم؛ ويروي لك الحدث في قصة لتستنبط منه الحكمة في النهاية، وتتكشف أمام نفسك {هو الَّذِي يُسيِّرُكم في البرِّ والبحر ۖ حتَّىٰ إذا كنتم في الفُلْك وَجرَيْن بهم بِريحٍ طيِّبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهم المَوْج من كلِّ مكانٍ وظنُّوا أنَّهم أُحِيط بهم ۙ دعَوُا اللَّهَ مُخْلصين له الدِّين لئن أنجيْتنا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين} [سورة التوبة: 109].

فهل كانوا من الشاكرين {فلمَّا أنجىٰهم إذا هم يَبْغون في ٱلأرض بِغير ٱلحقِّ} [سورة يونس: 23]، وهنا بيَّن الإنسانَ في لحظات ضعفه وقوته، لكنه قدّمها عبر صورة تعبيرية عظيمة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...

قراءة المزيد
ذلك يوم عزَّ فيه العرب

ذلك يوم عزَّ فيه العرب

" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...

قراءة المزيد
Loading...