الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي وإستراتيجيات المقاومة

بواسطة | يوليو 7, 2023

بواسطة | يوليو 7, 2023

الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي وإستراتيجيات المقاومة

اندلعت ثورة التحرير الجزائرية عام 1954م، ورغم الإمكانيات البسيطة وقلة العدد والعتاد، فإنها أوجعت المحتل الفرنسي وسببت له خسائر فادحة، وقد استخدمت فرنسا كافة الوسائل البشعة للتصدي للثورة، وصنعت جيوباً وقادة تابعين لها من الخونة، ودعمتهم بالمال والسلاح، فساهموا في سفك الدماء بين أبناء الشعب؛ ولكن حركات الخيانة باءت بالفشل بتوفيق من الله، ثم بصمود وثبات ووحدة جبهة التحرير.
اعتمد جيش التحرير الوطني أسلوب حرب العصابات والكر والفر، والغارات الخاطفة المدروسة في مجموعات صغيرة وخفيفة وسريعة، وحسب الظروف والمواقع والأزمنة والأمكنة والمستجدات التي كانت تضمن له في أغلب الأحيان التفوق والانتصار، وتجنبه كثرة الضحايا والخسائر، ومن أهم الميزات التي كانت تضمن له دوماً الانتصارات معرفته الجيدة للأرض والطبيعة، وتلاحمه مع الشعب الذي يدعمه ويمده بكل الامكانيات المطلوبة ماديا وأدبيا وإعلاميا، وتواصل هذا الدعم إلى أن تحقق الانتصار الأكبر في صيف عام 1962م.
إن العمليات التي قامت بها جبهة التحرير الوطني في المدن وجيش التحرير الوطني في الجبال والأرياف أخذت عدّة أشكال، ولكن هدفها كان واحدا، وهو مناوشة مراكز العدو والهجوم على مواقعه وتخريب منشآته الاقتصادية؛ وفي الوقت نفسه كانت العمليات تطهِّر المحيط من المعذبين ومن الخونة، وقد سبقتها حملة خاصة سماها النظام الجبهوي “التوغل”، والقصد منها شرح أهداف الثورة واختيار أهل الثقة واكتشاف جيوب المعارضة، ولضمان أمن أفواج المجاهدين فرض تقتيل الكلاب حتى لا تنبه بنباحها على الزائرين، واقترنت حملة التوغل بالاستيلاء على بنادق الصيد من أجل هدفين: كسب سلاح «ولو بسيط»، وحرمان القوات الفرنسية من الحجز عليه. (الثورة الجزائرية ثورة أول نوفمبر 1954م، بوعلام بن حمودة ص 227)

العملية لم تكن سهلة لكونها محفوفة بخطر توغل العدو في صفوف الثورة

أ ـ استغلال فرار الجزائريين من الجيش الفرنسي:
سعت جبهة التحرير الوطني لإقناع الجزائريين المجندين طوعا أو كرها في الجيش الفرنسي بالالتحاق بجيش التحرير الوطني، وإن العملية لم تكن سهلة لكونها محفوفة بخطر توغل العدو في صفوف الثورة، فإليكم أمثلة من هذه العمليات التي وفرت عددا معتبرا من الأسلحة الآلية لصالح جيش التحرير الوطني.

في أكتوبر 1955م التحق الرقيب مصطفى خوجة بجيش التحرير الوطني بصحبة رفيقين، ومعهم عشر رشاشات من نوع 49 أ Mat وكمية من الذخيرة مع مصطفى خوجة، وقد انضم بمؤهلاته الحربية وشجاعته وإيمانه إلى صفوف جيش الولاية الرابعة، ثم استشهد يوم 11 أكتوبر 1956م ببرج الكيفان قرب العاصمة، وذلك في أثناء زيارته للجنود المجروحين المعالَجين في منزل عائلة بن مرابط. وقد استشهد مصطفى خوجة مع 17 مجاهدا من رفاقه، وسمي كوماندو الولاية الرابعة باسمه، وأصبح يلقن العدو دروسا عسكرية في مستوى وسط الجزائر.
إن طاهر زبيري، يذكر في كتابه فرار كتيبة من الجنود من سوق أهراس، وعلى رأسها عبد الرحمن بن سالم «مارس 1956م»، وقد جلبت معها أسلحة وذخيرة، إلا أن العدو تتبعها وقتل عشرات من أعضائها، وأما الناجون منها فقد واصلوا الكفاح في صفوف جيش التحرير الوطني، وعاش بعضهم حتى الاستقلال، ومنهم عبد الرحمن بن سالم.
على حسب محمد لمقامي: إن فرار الجزائريين من الجيش الفرنسي، بدأ في 1956م بالغرب الجزائري، ويذكر حالات مماثلة حتى في الغرب «في القنيطرة مثلاً»، ويذكر أيضا فرار عدد من جنود اللفيف الأجنبي الذين رفضوا أن يكافحوا من أجل قضية ليست قضيتهم، وقد وصل عدد الفارين من اللفيف الأجنبي نحو ألف بين سنة 1956م وسنة 1958م في الغرب الجزائري، في حين يقدم فاروق بن عطية عدد 3281 جندياً من اللفيف الأجنبي الذين استقبلتهم بلدانهم بواسطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر. (الثورة الجزائرية، د . بوعلام بن حمودة ص 228)

إن هذه العملية الكبيرة والجريئة والذكية قد رفعت معنويات الشعب، كما أشارت إلى ذلك جريدة المجاهد رقم «3».

ب ـ عملية خاصة قامت بها الولاية الثالثة:
حاول الجيش الفرنسي أن يجند ويسلح شبانا جزائريين لينتظموا على شكل وحدات صغيرة مثل المجاهدين ويتتبعوا وحدات جيش التحرير الوطني، وكانت هذه العملية خاضعة للمصالحة الأمنية الفرنسية، وجرت هذه العملية من نوفمبر 1955م إلى سبتمبر 1956م ببلاد القبائل، وكُلف أحد الضباط الفرنسيين بتجنيد الشبان الجزائريين بموافقة الحاكم العام، وكان الحاكم العام ينسق مع القيادة الوطنية والقيادة المحلية للجيش الفرنسي.
فاتصل الضابط الفرنسي «Ousmer» بشخص كان يعرفه وهو الطاهر حشيش، وهذا الأخير اتصل بصاحب مطعم في عزازفة اسمه أحمد أوزايد، ولكن هذا الأخير كان مناضلا في حزب الشعب الجزائري وصديقا لبلقاسم كريم وعمر أوعمران، فاتصل بهما بواسطة سعيد بريروش «يا زوران» الذي عُيّن فيما بعد عقيدا وقائدا للولاية الثالثة؛ فكلف أحمد أوزايد بالإشراف على العملية، ولكن بتجنيد مناضلين جبهويين لهذه القوة بدلا من أعداء الثورة، فوصل عدد المجندين 1500 شخص تحركوا على شكل وحدات أوهمت القوات الفرنسية بأنها تقوم بتصفية «المجاهدين»، بينما كانت في الواقع تصفِّي أعداء الثورة؛ ونظراً إلى مخاطر العملية تقرر في مؤتمر الصومام إصدار الأوامر لكي تلتحق هذه القوة بجيش التحرير الوطني. هرب هؤلاء بسلاحهم إلى جيش التحرير الوطني يوم 30 سبتمبر 1956م، وغداة هذا الالتحاق نظمت القوات الفرنسية حملة واسعة للتفتيش، فاستشهد 300 مجاهد وأسر 600 والتحق 600 بجيش التحرير الوطني فامتزجوا بوحدات المجاهدين.
إن هذه العملية الكبيرة والجريئة والذكية قد رفعت معنويات الشعب، كما أشارت إلى ذلك جريدة المجاهد رقم «3».
ج ـ تعدد أشكال هجومات جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني:
إن هجومات جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني انتشرت في كل أنحاء الوطن بأشكال متعددة.

استهدفت عمليات التخريب: المحصولات الزراعية والمزارع التابعة للمعستمرين والطرقات والجسور والسكة الحديدية والمحولات الكهربائية والأعمدة.
صناعة القنابل ظهرت في كل ولاية: وقد أشرف عليها جنود لهم تجربة في الجيش الفرنسي، وتحايلوا في استعمال القنابل الفرنسية التي لم تنفجر، وتمكنوا من تشغيل الألغام عن بعد، فهكذا تكرر تفجير القطارات في «واد جرّ» غرب العاصمة، الأمر الذي دفع إلى تنفيذ حراسة شاملة للسكك الحديدية من طرف عدد كبير من القوات الفرنسية؛ وقد لجأت هذه الأخيرة إلى وضع المسافرين الجزائريين في الأمام وقاية من التفجيرات، فوجه جيش التحرير هجوماته إلى قطارات البضائع.

ذكر الدكتور أحمد بن نعمان في كتابه (جهاد الجزائر.. حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، بعض المعارك التي وقعت أثناء الثورة، نقلت منه ما حدث في الولاية الأولى

د ـ هجومات وكمائن واشتباكات في الأرياف:
نشير في بداية الفقرة إلى أن العمليات العسكرية لم تكن في شكل واحد «كمين، هجوم، اشتباك..» لأنها قد تبدأ بكمين وتتواصل باشتباك، وقد تتضمن عملية تفتيش «يقوم بها العدو» كميناً في أثنائها تنصبه وحدة لجيش التحرير، زيادة على أن كل عملية يشنها جيش التحرير الوطني تكون متبوعة بحملة تدميرية وتقتيلية تقوم بها القوات الفرنسية ضد السكان الموجودين جغرافيا في مكان الكمين أو الاشتباك.
إن العمليات كانت يومية وفي كل الجهات، أحصتها الملتقيات التي نظمتها المنظمة الوطنية للمجاهدين ولكنها غير مكتملة، فعلى المجاهدين الباقين على قيد الحياة أن يكملوها لأنها تبين حجم المعارك وعظمة التضحيات، كما تبين الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات الفرنسية، إضافة إلى أنها تقدم نماذج من المعارك التي وقعت من سنة 1954م إلى سنة 1956م، حتى نبين جو الحرب بين فئة قليلة من المؤمنين بقضيتهم التحررية، وفئة كثيرة مدججة بالسلاح لا تؤمن بقضيتها، بل هي آلة قتل يحركها النظام الاستعماري.
وقد ذكر الدكتور أحمد بن نعمان في كتابه (جهاد الجزائر.. حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، بعض المعارك التي وقعت أثناء الثورة، نقلت منه ما حدث في الولاية الأولى، ومن أراد التوسع عن المعارك في الولايات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة فليرجع إلى الكتاب المذكور.
وقد توسع كذلك الدكتور يحيى بوعزيز في كتابه «الثورة في الولاية الثالثة التاريخية»، وكذلك الدكتور بوعلام حمودة، الثورة الجزائرية، يقول الدكتور أحمد بن نعمان عند حديثه عن المعارك: تعمدنا وضع هذا الفصل لذكر بعض المعارك بصفة رمزية وليست حصرية، وذلك لدلالتها الزمانية والمكانية، وقد اعتمدنا فيها على شهادات المجاهدين الذين شاركوا في هذه المعارك، وكذلك بعض التقارير الولائية والوثائق الفرنسية المنشورة.

تنتقم القوات الفرنسية من السكان الجزائريين الذين يعيشون بالقرب من ميادين العمليات، فيُقتل الأبرياء، وتُغتصب النساء، ويُعتقل الرجال بدون بيِّنة، وتُدمر المساكن

ومن الملاحظات عن المعارك التي ذكرناها كنماذج:

عدد القوات الفرنسية في كل معركة أكثر بكثير من عدد المجاهدين المقاتلين في الميدان، ففي كل عملية نجد آلاف العساكر الفرنسية يجابههم المجاهدون بفصيلة أو كتيبة أو كتيبتين أو ثلاث كتائب «نادراً».
هناك فروق كبيرة بين سلاح القوات الفرنسية وسلاح جيش التحرير الوطني، فالجيش الفرنسي متزود ببنادق آلية وبمدافع رشاشة وأسلحة ثقيلة ودبابات ومصفحات ووسائل المواصلات، ومتحرك تحت تغطية الطائرات الاستكشافية أو المقنبلة، أما جيش التحرير فإنه يستعمل نصيبا من البنادق الآلية ونصيبا من البنادق نصف الآلية وقليلا من البنادق الرشاشة والرشاشات الثقيلة والباقي بنادق صيد، والأسلحة معظمها منتزعة من العدو في المعارك، والباقي آتٍ من بعض الفارين من الجيش الفرنسي، ومن الكميات الداخلة من تونس والمغرب وليبيا.(الثورة الجزائرية، بوعلام حمودة ص 240)
وبالرغم من هذه الفروق الكبيرة في التسلح وفي الوسائل وفي عدد المقاتلين في كل معركة ؛ نلاحظ أن خسائر الجيوش الفرنسية مرتفعة، وهذا راجع إلى شجاعة المجاهدين وإلى إيمانهم بالنصر وإلى قبولهم للتضحية الكبرى، وإلى تحركهم وإلى طبيعة الميدان الملائمة لحرب العصابات، وإلى تأييد الشعب الجزائري وسرعة التدرب على استعمال الأسلحة غير المعروفة سابقا.
بعد كل معركة، مهما يكن نوعها، تنتقم القوات الفرنسية من السكان الجزائريين الذين يعيشون بالقرب من ميادين العمليات، فيُقتل الأبرياء، وتُغتصب النساء، ويُعتقل الرجال بدون بيِّنة، وتُدمر المساكن، وتُقتل الحياة الريفية بتأسيس مناطق محرمة ومحتشدات «مراكز تجميع السكان». (الثورة الجزائرية، بوعلام حمودة ص 241)

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...