الجيوبوليتيك الروسي في الساحل.. تداعيات معتبرة على شمال أفريقيا
بقلم: إدريس آيات
| 10 يونيو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: إدريس آيات
| 10 يونيو, 2024
الجيوبوليتيك الروسي في الساحل.. تداعيات معتبرة على شمال أفريقيا
تتموضع منطقة الساحل الأفريقي في تقاطع جيوسياسي حيوي، حيث تجتمع الأنظمة البيئية الصحراوية والسافانية، مشكّلة خطاً فاصلاً بين الرمال المترامية للصحراء الكبرى والمساحات الخضراء الممتدة جنوباً. ولعله من المفارقات أن كلمة “الساحل”، التي توحي بالسواحل المائية، تطلق هنا على “ساحل الصحراء”، وهو ما يعكس تعقيدات تلك المنطقة وتفاعلاتها المتعددة الأبعاد.
في هذا الإطار، تبرز مجموعة من الدول الساحلية التي لا تطل على البحر مباشرة، بل تقع في قلب القارة، محاطة باليابسة من كل جانب، ما يحرمها من المنافذ البحرية المباشرة ويضع عراقيل جمّة أمام تجارتها الخارجية وتواصلها الاقتصادي مع العالم. تندرج تحت هذا التوصيف دول مثل مالي، النيجر، بوركينا فاسو وتشاد، حيث تفرض مواقعها الجغرافية تحديات لوجستية واقتصادية مستمرة.
ومع الأحداث السياسية الأخيرة، التي شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية، تعيد هذه الدول تشكيل تحالفاتها الدولية، في مسعى للتخلص من الهيمنة الغربية، والتقرب من قوى عالمية أخرى تقدم لها فرصاً لشراكات تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة واستعادة سيادة طالما كانت مسلوبة منذ عهود الاستعمار.
مع ذلك، لم يمر هذا التحول الاستراتيجي دون تداعيات، فقد أثارت الإنقلابات العسكرية ردود فعل قوية من القوى الغربية، بقيادة فرنسا، وكذلك من تكتلات إقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي لجأت إلى فرض عقوبات شملت الحظر الجوي والبري والبحري. ولم تكتف هذه الإجراءات بمحاولة عزل هذه الدول عن النظامين الإقليمي والدولي فحسب، بل تضمنت أيضاً محاولات لمنعها من استخدام الموانئ البحرية لجيرانها، ما يتناقض مع الاتفاقيات الدولية التي تضمن حرية المرور والولوج إلى البحار.
وفي هذا السياق، وجدت دول الساحل التي تستخدم موانئ الدول المجاورة، كالنيجر التي تعتمد على موانئ جمهورية بنين ونيجيريا، وبوركينا فاسو التي تستفيد من موانئ ساحل العاج وغانا، ومالي التي تلجأ إلى موانئ السنغال وساحل العاج.. وجدت تلك الموانئ قد أغلقت أبوابها في وجهها خلال الانقلابات. وقد بررت الدول المعنية هذا التحرك بأنه يهدف إلى إعادة الوضع الدستوري وعودة الديمقراطية، لكن الواقع يشير إلى أن الأمر ليس متعلقًا بالضرورة بالتغييرات غير الدستورية، بل بضمان مصالح قوى كبرى مثل فرنسا التي تظلل منظمة إيكواس، والتي تتعامل مع حكومات انقلابية في دول كتشاد والغابون عندما تكون مصالحها محفوظة.
في ظل هذه المتغيرات، اتجهت الأنظار نحو خلق تحالفات جديدة بما يخدم استراتيجياتها الوطنية لاستعادة السيادة والتحرر من الهيمنة الغربية التقليدية. وفي هذا الإطار، فتحت دول الساحل ذراعيها لمبادرات من قوى أخرى تسعى لاستغلال الفراغ الناجم عن العقوبات، مقدمة عروضًا لمشاريع بنية تحتية قد تفيد هذه الدول. من بين المبادرات البارزة، مبادرة المملكة المغربية التي أُعلن عنها في السادس من نوفمبر 2023 خلال الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء.
حيث أكد الملك محمد السادس استعداد المغرب لتعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي من خلال توفير البنية التحتية اللازمة للطرق والموانئ والسكك الحديدية. وخلال مؤتمر عُقد في مراكش ديسمبر 2023، تم التوقيع على اتفاقية بين دول الساحل والمغرب نحو تفعيل هذه المبادرة؛ وقد أعرب وزراء من بوركينا فاسو، مالي، النيجر، وتشاد عن التزامهم بالمبادرة، وأُقر في الاجتماع إنشاء فرق عمل وطنية في كل دولة لتطوير واقتراح سبل تنفيذ المبادرة وتقديم توصيات للملك ورؤساء دول الساحل لضمان تحقيق الأهداف المنشودة من المبادرة.
في سياق مبادرة المغرب لتعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، برزت عقبة ملحوظة تتعلق بقضية الصحراء؛ فالمبادرة تنطلق من الداخلة، التي تقع بالقرب من موريتانيا، وتحتضن مدينة الداخلة أحد أكبر الموانئ المغربية على الساحل الأطلسي. والمغرب، مستفيدًا من موقع الداخلة الاستراتيجي، قدمها كبوابة لدول الساحل والصحراء لولوج الأسواق العالمية عبر الأطلسي. لكن، توجد تحديات بسبب الخلافات حول السيادة على الداخلة، حيث تعتبرها جبهة البوليساريو جزءًا من الصحراء الغربية، في حين يرى المغرب أنها جزء من أراضيه.. هذا التعارض يضع العقبات أمام تنفيذ المبادرة بشكل فعّال دون حل القضية الأساسية للصحراء. ومن هنا اتجهت دول الساحل نحو المبادرة الروسية.
المبادرة الروسية:
الجيوسياسة، ذلك الفن الرفيع الذي يتطلب مهارة في اغتنام الفرص، قد وجدت روسيا فيه مسرحًا لتوسيع نفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، التي شهدت انقلابات عسكرية متلاحقة. إذْ أدارت دول المنطقة ظهورها للحلفاء الغربيين بعد فشلهم المستمر في القضاء على الجماعات الإرهابية، فاستغلت روسيا هذا الفراغ الاستراتيجي، فطرحتْ استراتيجية مزدوجة تمزج بين مشروع مكافحة الإرهاب بإنشاء الفيلق الأفريقي الروسي، الذي يضم خمس دول هي: ليبيا، بوركينا فاسو، مالي، جمهورية أفريقيا الوسطى، والنيجر، حيث تستضيف ليبيا مقره المركزي.
لماذا ليبيا؟ لأنها تقدم مجموعة من المزايا الاستراتيجية، بدءًا من تمركز قوات فاغنر السابق في مناطق مثل قاعدة “القرضابية” الجوية وميناء سرت، إضافة إلى قواعد أخرى مثل “الجفرة” و”براك الشاطئ”؛ وأهمية ليبيا تكمن أيضًا في موقعها المتميز على ساحل البحر المتوسط، ما يضمن سهولة الإمدادات العسكرية وتنقلات العناصر بين الدول الأفريقية المشاركة.
تشمل الاستراتيجية الروسية أيضًا في جزئها الآخر، خططًا لإنشاء ممر بحري يُسهل التجارة بين روسيا والصين ودول الساحل عبر الموانئ الليبية، ما يقلل من مدة الشحن بحوالي 15 يومًا بتجنب الإبحار حول رأس الرجاء الصالح. وقد اقترح خليفة حفتر، حليف روسيا في ليبيا، استخدام ميناءي بنغازي وطبرق كموانئ رئيسية للنيجر وبوركينا فاسو وربما مالي، وذلك لتجاوز الإغلاق الذي فرضه حلفاء الغرب على موانئ هذه الدول. في هذا السياق، يُشار إلى أن الصين قد أبدت استعدادًا لتمويل بناء طريق سريع، وخط سكة حديد يمتد من طبرق حتى باماكو عبر واغادوغو ونيامي، وهو مشروع يهدف إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي لهذه الدول، وتقليل اعتمادها على موانئ إيكواس التي يهيمن عليها النفوذ الغربي.
المشروع البديل الذي تطرحه روسيا، رغم أنه يعِد بفرص مغرية، يواجه عقبات جمة لا يمكن إغفالها.. تسعى روسيا – في استراتيجيتها الكبرى- لإنشاء ممر يمتد من السودان على سواحل البحر الأحمر، يمر عبر جمهورية أفريقيا الوسطى ويصل إلى دول الساحل، بما في ذلك النيجر، ليرتبط بالبحر الأبيض المتوسط عبر ليبيا. هذا الممر يواجه عقبتين رئيسيتين، حيث لم يكن السودان حليفاً في البداية بسبب ارتباط فاغنر بقوات الدعم السريع، كما أن تشاد، التي تلعب دور الوصل بين أفريقيا الوسطى ودول الساحل، تظل حليفة موثوقة لفرنسا، ما يشكل تحدياً. ومع ذلك، بدا أن روسيا قد تغلبت على هذا التحدي من خلال دبلوماسيتها المكثفة؛ فقد زار محمد كاكا، الرئيس التشادي، روسيا في يناير 2024، وعقب زيارته بأيامٍ، شنت كتيبة طارق بن زياد بقيادة صدام حفتر هجوماً على متمردين تشاديين في الجنوب الليبي، كإشارةٍ إلى الدعم الأمني الذي يمكن أن تقدمه روسيا لحكومة نجامينا.
وبعد تنصيب حكومة جديدة في تشاد، زار سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، البلاد في بواكير شهر يونيو2024، وأعلن في تصريحاته أن العلاقة بين روسيا وتشاد لن تؤثر على علاقات تشاد بفرنسا، وهو ما يُعدّ محاولة لكسب الود التشادي لأهمية الاستراتيجية التي توليها روسيا لإنجاح ممرها الذي يمتد من أفريقيا الوسطى إلى ليبيا. وفي السودان، بدأ الوضع يتغير نحو التقارب مع روسيا، حيث زار وفد روسي الخرطوم في خواتيم شهر أبريل، وبعد شهرٍ ونيفٍ زار وفدٌ سوداني موسكو، وفي الأثناء أشار جبريل إبراهيم، وزير المالية السوداني، إلى استعداد السودان لتقديم منفذٍ بحري على البحر الأحمر مقابل الدعم العسكري الروسي.
ويكمن التحدي الآخر في ليبيا، حيث الوضع السياسي يتسم بعدم الاستقرار والانقسام حول القيادة، ما يجعل الخطط الروسية عرضة للتعقيدات؛ فالجنرال خليفة حفتر، الذي لا يحظى بإجماع وطني كقائد للبلاد، ويعتبر من نقائض حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها محمد المنفي، يُعدّ عنصرًا أساسيًا في استراتيجيات روسيا، التي تسعى لاستخدام الجنوب الليبي كمنطلق لمشروعاتها، متجاوزة بذلك العاصمة طرابلس. هذا التوجه يسهم في تعميق الانقسامات داخل ليبيا، وقد يضع روسيا في مواجهة مع الجزائر، حليفها في شمال أفريقيا، التي تفضل نهجًا مختلفًا في التعامل مع ليبيا.. فالشراكة مع حفتر، وإن كانت تبدو استراتيجية من الجنوب الليبي، فإنها حتمًا تُفاقم من تفكيك ليبيا؛ وحينها لن تقتصر المخاطر على السياسة فحسب، بل ستمتد لتشمل الأمن، حيث ستسهم الأسلحة القادمة من ليبيا المُفككة في تغذية أعمال العنف والإرهاب في المنطقة، ما يضعف بيئة الاستثمار ويؤثر سلباً على تقدم أي مشروع تنمية.
ختامًا، وفي ظل هذه التحولات المعقدة، تقف دول الساحل وشمال أفريقيا الآن على مفترق طرق حاسم، فبينما تُكافح لرسم مسارات جديدة مع المملكة المغربية أو استراتيجيات بديلة مع الشرق، تنغمس القوى الخارجية في لعبة الهيمنة وتوسيع نفوذها، مستغلةً الفراغات والفترات الانتقالية لتعزيز مصالحها، ما ينذر أحيانًا بتهديد وحدة الأراضي الوطنية. هذه القوى، مدفوعة برغبة في تثبيت أقدامها والتغلب على المنافسين، تدخل في صراعات تحكمها الأجندات الجيوسياسية، التي تفوق في كثير من الأحيان الاعتبارات الإنسانية أو حتى الاقتصادية للدول المتأثرة بهذه التحركات.
أكاديمي وخبير مختص في الشؤون الخليجية-الأفريقية
2 التعليقات
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
أستاذنا، اشكرك على القاءك الضوء دائما على هذا الجزء من العالم الذي أصبح محط اهتمام الجول الكبرى ودخل إطار الصراع الدولي..
مافهمته من مقالتك ان في الصراع الكبير على منطقة الساحل تحاول الاطراف استمالة هذه الحكومات واغرائها خاصة بتوفير غطاء أمني وكذلك ولوج للبحر و الموانئ، وصعوبة المبادرتين المغربية والروسية، لماذا لايوجد طلب ومفاوضات مع الموريطانيين والجزائريين، الجزائر لها القدرة والارادة وقد دشنت طريق الوحدة الافريقية الذي سيصل إلى النيجر ومالي… ؟؟ لماذا يعد اطلالة على البحر عبر الجزائر بعيد عن المتناول ولا تتطرق اليه دول الساحل؟؟؟
شكرا لك يا بروفنا الغالي