الحريديم.. ثقب إسرائيل الأسود

بواسطة | مايو 31, 2023

بواسطة | مايو 31, 2023

الحريديم.. ثقب إسرائيل الأسود

أثار مشروع ميزانية إسرائيل لعامي 2023 -2024، الذي أقره الكنيست الأسبوع الماضي، ردود فعل غاضبة لدى كثير من الأوساط الحزبية والأكاديمية والاقتصادية والشعبية في تل أبيب، لما تضمنه من ميزانيات تفضيلية لصالح التيار الديني الحريدي.
وتعود ردة الفعل الغاضبة على منح التيار الحريدي المزايا الاقتصادية الهائلة، تحت تأثير الأحزاب التي تمثله في الائتلاف الحاكم، إلى حقيقة أن نسبة إسهام الحريديم في سوق العمل متدنية إلى حد كبير نتيجة تفرغ أغلبيتهم الساحقة للتعليم الديني والعبادة، حيث يعتمدون بشكل أساس على مخصصات الضمان الاجتماعي التي توفرها الحكومة تحت ضغط ممثليهم فيها؛ وتشمل مخصصات البطالة، الأطفال، التقدم في العمر، إلى جانب اعتمادهم على القسائم الغذائية التي تمولها الخزانة العامة.

استجاب نتنياهو لضغوط الأحزاب الحريدية، ووافق على منح الجهاز التعليمي الحريدي ميزانية تقوق بكثير ما تم تخصيصه للجهاز التعليمي الذي يستوعب العلمانيين.

إن ما فاقم الشعور بالغضب لدى العلمانيين حقيقة أنهم هم من يتحمل دفع فاتورة الميزانيات الضخمة التي يحوز عليها الحريديم؛ فعدم إسهام الحريديم في سوق العمل يعني أن ما يدفعونه من ضرائب سيكون دوما متدن إلى حد كبير، ما يزيد من وطأة الأعباء الاقتصادية على العلمانيين الذين يمثلون المصدر الرئيس للضرائب، التي بواسطتها تتمكن إسرائيل من تقديم الخدمات المختلفة: الأمن، التعليم، الصحة، المواصلات، وغيرها. ومما يفاقم الأمور تعقيدا حقيقة أن مستوى التكاثر الطبيعي لدى أتباع التيار الحريدي كبير جدا، حيث أن متوسط عدد ولادات المرأة المتدينة الحريدية 7-8 ولادات، ما يمكنهم من مضاعفة عددهم كل 25 عاما.
 وحسب دراسة عرضت نتائجها صحيفة “يديعوت” الأسبوع الماضي، فعلى الرغم من أن الحريديم يشكلون 10-12 % من تعداد السكان، فإن ربع الأطفال في إسرائيل دون سن المدرسة هم من الحريديم؛ في حين تتوقع الدراسة أن يصبح نصف الأطفال دون سن المدرسة من الحريديم بحلول عام 2050. وهذا يعني أن الأعباء الاقتصادية الناجمة عن وجود الحريديم ضمن النسيج الاجتماعي الإسرائيلي واندماج أحزابهم في النظام السياسي ستتعاظم مع مرور الوقت فقط.
ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فالمتدينون الحريديم، وبخلاف المتدينين القوميين، لا تؤدي أغلبيتهم الساحقة الخدمة العسكرية، حيث يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية استنادا إلى تأويل اتفاق توصل إليه رئيس الحكومة الأول ديفيد بن غوريون والمرجعيات الدينية الحريدية في 1948. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق أعفى جزءا فقط من الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية ليتفرغوا للتعليم الديني، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أعفت عمليا الأغلبية الساحقة من الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية تحت ضغط الأحزاب الحريدية المشاركة فيها.
وقد وفرت الملفات الجنائية، التي يحاكم فيها نتنياهو، فرصة ذهبية للأحزاب الحريدية لمحاولة مراكمة أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، وفرض رؤاها الفقهية المتشددة على المجتمع. ويعي نتنياهو أن ضمان تواجده على رأس الحكم يساعده على الإفلات من المحاكمة عبر استغلال الأغلبية البرلمانية التي تحظى بها حكومته في سن تشريعات قضائية خاصة؛ لذا يبدي حرصا كبيرا على الحفاظ على استقرار هذه الحكومة؛ وهذا ما مكن الأحزاب الحريدية المشاركة في حكومته من ابتزازه والتلويح بإمكانية الانسحاب منها حال لم يستجب لإملاءاتها المختلفة والمكلفة.
وقد استجاب نتنياهو لضغوط الأحزاب الحريدية، ووافق على منح الجهاز التعليمي الحريدي ميزانية تقوق بكثير ما تم تخصيصه للجهاز التعليمي الذي يستوعب العلمانيين. فقد حصل الجهاز التعليمي الحريدي في مشروع الميزانية الأخيرة على 13.4 مليار شيكل “حوالي 3.7 مليار دولار”، وهذه مخصصات ضخمة حتى بالمقاييس الإسرائيلية. وفي تقرير نشرته الأسبوع الماضي، دللت صحيفة “هارتس”، استنادا إلى معطيات وزارة التعليم الإسرائيلية، على أن المخصصات المالية التي يحصل عليها الطالب المتدين الحريدي تفوق بـ 40% ما يحصل عليه الطالب العلماني.
المفارقة، أن الحكومة الإسرائيلية تخصص الميزانيات الضخمة للجهاز التعليمي الحريدي، على الرغم من أن هذا الجهاز حزبي لا يتبع وزارة التعليم ولا يلتزم بتعليماتها مطلقا، ويرفض بإصرار ضبط العملية التعليمية وفق المعايير التي تحددها الحكومة؛ فعلى سبيل المثال، ترفض المدارس الدينية الحريدية تعليم المواد الأساسية: الإنكليزية، العلوم، والرياضيات، بزعم أن تعليمها يؤثر سلبا على “المنظومة القيمية” للطلاب الحريديم؛ ويترتب على عدم تدريس هذه المواد تداعيات اقتصادية خطيرة، حيث أن الإلمام بهذه المواد يعد متطلبا أساسيا من متطلبات الاندماج في سوق العمل الإسرائيلي الذي يقوم على التقدم التقني. وعليه، ففي حال حدثت تحولات على توجهات جزء من الشباب الحريدي وأراد الاندماج في سوق العمل، فإنه لن يكون مزودا بالمؤهلات العلمية التي تمكنه من ذلك.

لا يكتفي الحريديم بنهب الخزانة العامة كما تبين آنفا، بل يعمدون أيضا إلى فرض توجهاتهم الدينية الفقهية على المجتمع، بسبب ما يحوزونه من تأثير داخل الحكومة

وقد دفع الشعور الطاغي بالقوة الأحزابَ الدينية الحريدية إلى إجبار الحكومة الحالية على تمويل مشروعات اقتصادية، تستند إلى رؤى دينية فقهية موغلة في تطرفها وهذيانها!. فبناء على طلب الحريديم، خصص نتنياهو في مشروع الميزانية الأخير مئات الملايين من الشواكل لتدشين مشروع “الكهرباء الحلال”؛ ويقوم هذا المشروع على تخزين الكهرباء في مرافق تخزين ضخمة، واستخدامها في تزويد المستوطنات الحريدية بالكهرباء أيام السبت، فقد بات الحريديم يرفضون الحصول على الكهرباء أيام السبت في حال تم توليدها في نفس اليوم؛ على اعتبار أن توليد الكهرباء أيام السبت يعد مسّا بحرمة اليوم.
وقد دفع هذا الواقع 250 من كبار الاقتصاديين، ضمنهم مسؤولون سابقون كبار شغلوا مواقع مهمة في وزارة المالية، والبنك المركزي والقطاع المصرفي، ومدراء شركات ومرافق اقتصادية رائدة، إلى التوقيع على عريضة حذروا فيها من أن مواصلة الحكومات الإسرائيلية الخضوع لابتزاز الحريديم سيفضي إلى انهيار إسرائيل اقتصاديا، وتقليص قدرتها على توفير الخدمات الأساسية لمستوطنيها؛ وحسب ما جاء في العريضة، فإن إسرائيل ستخسر في العقود القادمة بفعل غياب الحريديم عن سوق العمل 6.7 ترليون شيكل “حوالي 1.86 ترليون دولار”.
لا يكتفي الحريديم بنهب الخزانة العامة كما تبين آنفا، بل يعمدون أيضا إلى فرض توجهاتهم الدينية الفقهية على المجتمع، بسبب ما يحوزونه من تأثير داخل الحكومة؛ فقد تمكت الأحزاب الحريدية من دفع الحكومة إلى الفصل بين الجنسين في بعض المؤسسات الأكاديمية، وتخصيص شواطئ سباحة منفصلة للرجال وأخرى للنساء في بعض المناطق لكي يؤممها الحريديم، إلى جانب تشددهم في فرض حرمة السبت، وغير ذلك من ممارسات.
وقد أدى هذا الواقع إلى تعميق الشعور بالكراهية تجاه الحريديم في أوساط العلمانيين، ما فاقم الاستقطاب الداخلي وعمَّق الصدع المجتمعي في إسرائيل. وقد حذر رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، من أن الاستقطاب الداخلي والتشظي المجتمعي، الذي يؤججه الشعور بالغضب تجاه الحريديم، بات أحد سمات ما أسماه “اللعنة” التي أصابت إسرائيل في عقدها الثامن، والتي يمكن أن تقود إلى زوالها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...