الزعيم.. “الهلفوت”!

بواسطة | يناير 2, 2024

بواسطة | يناير 2, 2024

الزعيم.. “الهلفوت”!

رحلة “الهلفوت” في عالم الفقر والأمل

لعب عادل إمام في فيلم “الهلفوت” واحداً من أجمل أدواره في السينما.. قام بدور شاب لقيط مسكين، وجد نفسه على رصيف إحدى محطات القطار، فلم يعرف غير المحطة والبلدة المحيطة بها وطناً ومأوى، يعمل “حمّالاً”، يُسمّيه الناس “عرفة مشاوير”، كناية عن كثرة مشاويره وهو يحمل أغراض ومشتريات السكان لتوصيلها إلى بيوتهم، والصفة الغالبة التي يطلقونها عليه هي “الهلفوت”.

لا يريد من الدنيا شيئاً سوى غرفة تؤويه ولُـقمة خبز تسد جوعه، وامرأة من “لحم ودم” لحاجة إنسانية بدلاً من السهر أمام صور النساء، رضي بأقل القليل ومنه المرأة المُطلقة الفقيرة “إلهام شاهين”، التي تزوجها رغم معرفته بسلوكياتها وذهابها ليلاً في عربات القطار المهجورة مع راغبي المتعة، أقنع نفسه أن ذلك السلوك كان نتيجة ظروفها الصعبة، وأنها ستتغير بعد الزواج. وكم كان مثيراً للتعاطف معه ذهابه إلى أمها بائعة الخضار ليقنعها بزواجه من ابنتها، ولما سألته عن أحواله المادية، قال لها :”كل اللي معايا 257 جنيه.. وأهو نكلفت بعضنا بيهم وخلاص”، بمعنى أن تستر ابنتها ويعفّ نفسه.

كشف الأقنعة – دراما القهر والثورة

ثم وضعت الظروف هذا الإنسان البائس فى طريق زعيم المنطقة “صلاح قابيل”، الرجل القوى ذي المهابة، الذي يفرض سيطرته على الجميع بدعوى أنه كبيرهم وحاميهم.. وقع اختيار “الزعيم” على “الهلفوت” ليقضى له حاجياته ويخدمه فى منزله، وكان الأخير يناديه دائما بلقب “سيد الناس”.

وذات مرة طلب “الزعيم” من “الهلفوت” أن يساعده في خلع ملابسه، وهنا كانت المفاجأة! إذ اكتشف الخادم أن ضخامة “سيد الناس” وصدره العريض الذي يخيف به الرعية، ليسا سوى كذبة كبيرة، فهو في حقيقته ضئيل الجسد، خائر القوى، ساذج التفكير، يغطي ضعفه وضآلته بقطع من القماش السميك يلّف بها جسده ليبدو منتفخاً قوياً.. أدرك “الهلفوت” المسكين بعدما ضاق بشتائم وضرب “الزعيم” له أن خصمه يسهل القضاء عليه، وأن الأمر لا يتطلب سوى بعض من الإرادة وقليل من الشجاعة، وهذا ما حدث بالفعل، حيث صرع “الزعيمَ” على رصيف المحطة وسط تهليل باقي “الرعية” الذين تشجعوا وأيدوا من خلَّصهم من جبروت “سيد الناس”، وذهبوا إلى الشرطة للشهادة معه بأنه كان يدافع عن نفسه، وبالتالي تمت تبرئته.

مقاومة الهلفوت تكسر هالة جيش القهر وتكشف عن زعيم مكبل بأوهام القوة

هذه الحكاية تُلخّص بشكل أو بآخر ما حصل في 7 أكتوبر 2023، حينما أنهى مقاومو غزة الهالة التي تصنعها إسرائيل حول قوتها التي لا تُقهر، والقبة الحديدية التي ترصد كل شي في السماء حتى لو بعوضة شاردة.. طبعاً – ومؤكد- لا أقصد تشبيه رجال المقاومة الشجعان والصامدين بخصال “الهلفوت” المسكين، لكن القصد أن المقاومة ملكت الإرادة وآمنت بقدرتها على مقارعة نتيناهو، الذي يُنصّب نفسه مثل صلاح قايبل في الفيلم “سيد الناس” بالمنطقة العربية وضواحيها.

كشفت المقاومة كذبة الدعاية الصهيونية باستحالة مواجهة “جيش الدفاع الإسرائيلي”، أثبتت في 7 أكتوبر ثم في المواجهات المباشرة معه بعد ذلك، أنه بالإمكان محاربته ندّاً لندٍّ والانتصار عليه، بعدما تبين للدنيا كلها أنه جيش جبان، ينفخ عضلاته فقط على المدنيين العُزل، ويستقوي على النساء والأطفال بالطائرات من السماء، بينما هو على الأرض تماماً مثل “الزعيم” الضعيف الضئيل الذي قتله “الهلفوت”.

الديكتاتوريين والهلفوت: صفات الطيبة والتحول الثوري للشعوب العربية

هذا الفيلم يعكس أيضاً – وبشكل أكثر وضوحاً- حكاية معظم الشعوب العربية مع حكامها من فصيلة “الديكتاتوريين” وحملة جينات “الاستبداد”، والذين هم – بالفعل والتصرفات- ضد المقاومة الفلسطينية.. أكرر مرة أخرى أنني طبعاً – وبالتأكيد- لا أقصد تشبيه الشعوب بـ “الهلفوت”، لكن ما يجمعهم به هو صفات الطيبة والرضى بالقليل، إنها شعوب مسالمة تتعرض للتنكيل والسرقة من”طغاة” جبناء، يدارون ضعفهم بقطع من قماش “الأمن” يلفّونها حول مقدمات صدورهم لتكون عنواناً للهيبة، فضلاً عن “مؤخراتهم” كنوع من الحماية من أية ركلات متوقعة من الجماهير الغاضبة.

ظن المستبدون أن طيبة العرب تحولت إلى خنوع أبدي، وأن طول صبرهم أصبح عادة ثابتة لن تتغير؛ لكن الشعوب في اللحظات التاريخية، وعندما يفيض الكيل، تصبح قادرة على التغيير.

دروس الربيع العربي ومصير الحكام الفاسدين

وبما أن “روايح يناير” تفوح في سماواتنا هذه الأيام بياسمينها وغضبها، فلنتذكر ما حدث في تونس الخضراء مثل هذا الشهر من العام 2011، حينما نزل نحو 30 ألفاً إلى الشوارع فأزاحوا رجل الأمن المحترف زين العابدين بن علي.. بعدها شاهدنا ضمن حلقات الربيع العربي الغاضبين في ليبيا يقبضون على القذافي، ويذهبون بـ “ملك ملوك أفريقيا” إلى مصيره المحتوم بعد 42 عاماً من السيطرة المطلقة. ورأينا مصيراً مشابهاً لعلي عبد الله صالح في اليمن، بينما استطاع بشار الأسد أن يفلت – حتى الآن- نتيجة معادلات قوى دولية ترى أن بقاءه يخدم مصالحها.

تحطيم الأقنعة: شعوب الربيع العربي تكشف ضعف الحكام الفاسدين

إذن، الشعوب اكتشفت أن هؤلاء الطغاة ليسوا سوى زعماء من ورق ونماذج مكررة من “سيد الناس”، وأن القضاء عليهم لا يتطلب سوى بعض الإرادة وحبة شجاعة ونتفة كرامة، والاقتناع أن أجهزة القمع التي يتخفون وراءها ليكسبوا الهيبة والمكانة ويخيفون بها الشعوب، ليست إلا أجهزة ضعيفة، ستفرّ وقت الجد حتى لو أمام “هلفوت” آمن بقدراته.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...