السلطويات والبحث عن “إسلام خالي الدَسَم”

بواسطة | يونيو 9, 2023

بواسطة | يونيو 9, 2023

السلطويات والبحث عن “إسلام خالي الدَسَم”

على مدار العقود الأربعة الماضية شهدت الدول العربية عدة موجات من التديُّن، سواء المؤّطر والمنظّم أو غيره. وقد بدأت الموجة الأولى أواخر السبعينيات واستمرت طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك مع ظهور ما كان سُمى وقتها بتيار الصحوة الإسلامية، الذي ظهر على خلفية قيام الثورة الإيرانية عام 1979. وقد كانت الصحوة مدعومة، آنذاك، بنوع من الرضاء والرعاية الرسمية من بعض الأنظمة العربية، وذلك من أجل مواجهة النفوذ الإيراني في المحيط السنّي من جهة، ومحاصرة الخطر الشيوعي الذي كان يتمدد شرقا تحت رعاية الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. فنشطت الحركات الإسلامية ذات التوجه الإخواني والسلفي في أكثر من بلد عربي، ولذلك سُمّي عقد الثمانينيات بعقد “الصحوة الإسلامية”.

جاءت الموجة الرابعة للتدين بعد “الربيع العربي” وذلك على خلفية صعود الأحزاب والتيارات الإسلامية لِقمة السلطة، فبدأت مراكز القوى القديمة ورعاة الثورة المضادة إقليميا في تحضير نمط جديد من التدين يعتمد على الصوفية والتصوّف.

وفي أوائل التسعينيات جاءت الموجة الثانية من التدين مع ظهور تيار الدعاة الجدد، الذين بدأوا في ترويج نمط جديد من التدين غير محمّل بعبء الإيديولوجيا، وغير مؤطر تنظيميا، ومتخفف من الطرق التقليدية في نشر الدعوة؛ وكان أبرز نجوم هذا التيار الدكتور عمر عبد الكافي، وظهر الشاب، آنذاك، عمرو خالد الذي تحوّل إلى ظاهرة ملفتة في مجال الدعوة، وحاز شعبية كبيرة في السوق الدينية، خاصة في أوساط الشباب، أواخر التسعينيات.
وفي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة انطلقت الموجة الثالثة من التدين، ولكن هذه المرة بنكهة سلفية أصولية، وهي الموجة التي دعمتها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلدان العربية، وذلك من أجل مواجهة واحتواء المد الإخواني الذي نجح في تحقيق اختراقات سياسية مهمة في أكثر من بلد عربي من خلال نافذتي الانتخابات والعمل الأهلي. وقد انتشرت التيارات والرموز السلفية في الفضاء العام، وبدأت تهيمن على السوق الدينية، خاصة في مجالي الإعلام والأزياء الدينية. وكان ظهور القنوات التلفزيونية الدينية بمثابة نقلة نوعية في الحضور السلفي في الفضاء العام؛ وبات رموز التيار السلفي وشيوخه نجوما في الإعلام والفضائيات، وتمتع كثير منهم بالدعم المالي والمعنوي من سلفيات الخليج.
ثم جاءت الموجة الرابعة للتدين بعد “الربيع العربي” وذلك على خلفية صعود الأحزاب والتيارات الإسلامية لِقمة السلطة، فبدأت مراكز القوى القديمة ورعاة الثورة المضادة إقليميا في تحضير نمط جديد من التدين يعتمد على الصوفية والتصوّف. فقد شهدت مصر، والمنطقة العربية، خلال العقد الماضي تحولا ملحوظا في سوقها الدينية باتجاه الصوفية والتصوف. ففي مصر، على سبيل المثال، تم تفريغ الساحة بشكل كامل تقريبا للطرق والجماعات الصوفية كي تنتشر ويظهر أتباعها على السطح دون منافسة؛ كما يبدو الطلب على الصوفية والتصوّف الآن مدفوعا برعاية السلطويات العربية لها، سواء من خلال إغداق الكثير من الأموال على شيوخها ورموزها، أو عبر تقريبهم إليها وإفراد مساحات واسعة لهم في الإعلامين، الرسمي وغير الرسمي، على حساب بقية الجماعات والتيارات.
وقد كانت الصوفية في مصر موجودة ومنتشرة منذ قرون، إلا أن ظهورها على السطح خلال سنوات ما بعد ثورة يناير ٢٠١١، وتحديدا في الفترة ما بعد انقلاب الثالث من يوليو ٢٠١٣، يبدو أمرا لافتا للنظر. ومع أن القاعدة الاجتماعية الأساسية للصوفية في الماضي تمركزت بالأساس في الطبقتين الدنيا والوسطى، فإنها بدأت تتغلغل الآن في الطبقتين العليا والعليا الوسطى، وثمة إقبال من شباب هاتين الطبقتين على الالتحاق بالطرق والتيارات الصوفية، وهناك أحاديث كثيرة حول اتباع عدد من كبار المسؤولين للصوفية الموالية للسلطة، وهو ما يعطيها نفوذا وتأثيرا يفوق ما دونها من الاتجاهات الدينية.

يتلاقى صعود الصوفية الجديدة مع رغبة إقليمية ودولية لمحاصرة تيارات الإسلام السياسي، ووقف صعودها ونفوذها في العالم العربي؛ وليس غريبا أن تكون الدول الراعية للثورة المضادة هي ذاتها التي تتبنى نشر الاتجاهات الصوفية في العالم العربي

أما الأكثر بروزا فهو تلك الحرية التي يتمتع بها المتصوفة الجدد في إظهار طقوسهم الصوفية، على عكس ما كان عليه الأمر سابقا. فثمة مساجد كاملة تحولت باتجاه الصوفية، وهناك الآن دروس دينية يلقيها بعض مشايخ الصوفية في المساجد على الملأ، بعد أن كانت طقوسهم تقتصر على تجمعات في منازل المريدين أو في بيت شيخ الطريقة؛ وقد صار بعض أتباع الصوفية يتباهون بتصوير ونشر طقوسهم على صفحات التواصل الاجتماعي، بما تحمله من خرافات وهرطقات كالرقص والغناء في المساجد.
يتلاقى صعود الصوفية الجديدة مع رغبة إقليمية ودولية لمحاصرة تيارات الإسلام السياسي، ووقف صعودها ونفوذها في العالم العربي؛ وليس غريبا أن تكون الدول الراعية للثورة المضادة هي ذاتها التي تتبنى نشر الاتجاهات الصوفية في العالم العربي من أقصاه إلى أدناه، وتغدق عليها الأموال والدعم السياسي والمؤسسي بشكل غير مسبوق؛ وهي في ذلك تستغل جرائم وبشاعات الجماعات الجهادية المتطرفة، من أجل تبرير رعايتها لهذا النمط التديني باعتباره يمثل “الإسلام الحقيقي” الذي يجب على العرب والمسلمين اتباعه، في حين تقدّم نفسها للعالم باعتبارها راعية “الإسلام المعتدل”، الذي يعني بالنسبة لها إسلاما مستكينا وخانعا، يقبل كل ما يُفرض عليه من أجل الاندماج في المنظومة الكونية.
وكما استغلت هذه الأنظمة تيارات دينية أخرى في الماضي، وذلك من أجل دعم وجودها وشرعيتها، فإن هذه الأنظمة تستغل الآن التيار الصوفي من أجل تحقيق أجندة سياسية مغايرة، وأغلب الظن أنها سوف تنقلب على رموزه حين تنتهي الحاجة إليهم، تماما كما فعلت من قبل مع تيارات ورموز دينية أخرى.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...