السودان بين رحى البرهان وولد حمدان
بقلم: جعفر عباس
| 17 مايو, 2023
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: جعفر عباس
| 17 مايو, 2023
السودان بين رحى البرهان وولد حمدان
أدى حراك شعبي عارم في مختلف مدن السودان، دام أربعة أشهر متصلة، إلى خلخلة حكومة حزب المؤتمر الوطني، برئاسة المشير عمر البشير؛ فكان أن انقلبت عليها اللجنة الأمنية، التي كانت مكلفة بحمايتها، وجلس النائب الأول لعمر البشير، الفريق عوض بن عوف، على كرسي رئاسة مجلس عسكري يمثل رئاسة الدولة؛ فزاد ذلك الغضب الشعبي اشتعالا، فانسحب ابن عوف من المشهد بهدوء، وحل محله الفريق عبد الفتاح البرهان، مصطحبا معه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي منحته حكومة البشير رتبة فريق، بحكم انه قائد قوات الدعم السريع الموازية للجيش الرسمي، فصار حميدتي نائبا لرئيس المجلس العسكري الحاكم؛ ولاحقا، وبعد تفاهمات بين القوى المدنية والعسكرية، نائبا للبرهان رئيس مجلس السيادة.
ارتكبت حكومة عمر البشير سلسلة من الأخطاء الكارثية، التي سيظل السودان يدفع ثمنها لعقود طويلة مقبلة؛ ولكن، كان أفدحها فصل جنوب البلاد، الذي سمح بقيام دولة مستقلة، انصياعا لرغبات أمريكا والغرب عموما؛ ثم إنشاء قوات الدعم السريع، التي تشكلت في الأصل من القوات سيئة السمعة والسيرة والمسيرة، التي كانت معروفة بالجنجويد (جن على ظهر جواد)، والتي ارتكبت جرائم إبادة بشرية وتهجير قسري في شمال وغرب إقليم دارفور؛ وبأسلوب تكحيل العين العمياء أضفت حكومة البشير على تلك القوات اسم “حرس الحدود”، وجعلت زعيم الجنجويد موسى هلال قائدا لها، لتظل تمارس سياسات وأساليب الجنجويد نفسها، قتلا ونهبا وحرقا للقرى؛ وفي سياق كل ذلك لمع الشاب العشريني حميدتي، وهو ابن عم موسى هلال، وكان قبلها يعمل في تجارة الدواب، كمقاتل شرس يعمل بأسلوبه الخاص في شن الغارات وقطع الطرق؛ فانقادت له مجموعات كبيرة من الشباب المغامرين، ما مكَّنه من الانقلاب على هلال، والفوز بقيادة قوات حرس الحدود. ولما كثر عديد جنوده منحته الحكومة رتبة عميد، ليقود تلك القوات تحت اسم “الدعم السريع”، ثم تمت ترقيته إلى لواء، وهو الذي لم يتجاوز حظه من التعليم المدني الصف الرابع الابتدائي. ونجحت قوات حميدتي في قمع معظم حركات التمرد في دارفور، وفاز برتبة فريق.
تشكل تحالف مدني عسكري في السودان بعد سقوط حكومة البشير، تمثَّل في قيام حكومة هشة، شقها التنفيذي مدني بينما السيادي قسمة بين العسكر والمدنيين، وظل الطرفان يتشاكسان، كما هو الحال في “زيجات المصلحة”، فانقلب البرهان والعسكر على الشق المدني في الحكم، في أكتوبر 2021
بعد سقوط حكومة البشير تولى البرهان تلميع وتسويق قوات الدعم السريع، على أنها جزء أصيل من القوات المسلحة، وتأتمر بأمر القائد العام للجيش الوطني، ثم منحه رتبة فريق أول، وقال هو وكبار قادة الجيش في حميدتي، ما لم يقله قيس في ليلى ولا محمد دحلان في شارون ونتنياهو؛ بل وأطلق يد قوات الدعم السريع في كل أقاليم السودان، وسمح له بإقامة معسكرات لقواته حول العاصمة، وأوكل إليه حراسة كل المرافق المهمة في العاصمة.
تشكل تحالف مدني عسكري في السودان بعد سقوط حكومة البشير، تمثَّل في قيام حكومة هشة، شقها التنفيذي مدني بينما السيادي قسمة بين العسكر والمدنيين، وظل الطرفان يتشاكسان، كما هو الحال في “زيجات المصلحة”، فانقلب البرهان والعسكر على الشق المدني في الحكم، في أكتوبر 2021، وكان حميدتي جزءا من الكتلة الانقلابية، واعتلى المنابر ليبشر ب”تصحيح المسار”؛ ولكن، وإلى يوم الناس هذا، فشل الانقلابيون في تشكيل حكومة تتولى تطبيق الشعارات التي أعلنوها على الأرض، فكان أن عادوا إلى التفاوض مع القوى المدنية، ثم وقعوا معها على اتفاق يقضي مبدئيا بخروج العسكر من السلطة بشكل نهائي، وتكوين حكومة مدنية بالكامل؛ وفي سياق الإعداد لتفاصيل ذلك كله اقترح البرهان، ومعه كبار قادة الجيش، أن يتم دمج قوات الدعم السريع في الجيش الرسمي خلال عامين على أبعد تقدير، على أن يعمل قائد تلك القوات تحت إمرة القائد العام للجيش (الذي هو البرهان)؛ بينما رأى حميدتي ان يتم الدمج خلال عشر سنوات، وأن يعمل هو كقائد لقوات الدعم السريع تحت إمرة رئيس الوزراء، أو رئيس مجلس السيادة المدني.
ولهذا وهكذا، اشتعلت حرب السودان الحالية؛ وبغض النظر عمن أشعل شرارتها الأولى، فمن الثابت من قرائن الأحوال أن كلا من البرهان وحميدتي كان في الفترة الأخيرة يعد العدة للنيل من صاحبه. فمع الضربة الجوية الأولى على معسكر للدعم السريع في جنوب الخرطوم، كانت قوات حميدتي قد أعلنت سيطرتها على القيادة العامة للجيش، ومطار الخرطوم، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، والقصر الجمهوري، ووزارة الداخلية، ومصفاة النفط الرئيسية في ولاية الخرطوم، وعدد كبير من المرافق الخدمية؛ وفي غضون الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب التي بدأت في 15 أبريل، تمكن الجيش من تدمير أو تشتيت كافة معسكرات الدعم السريع حول العاصمة السودانية، ولكنه لم يتمكن من إزاحتهم عن معظم المواقع التي احتلوها في ساعات الحرب الأولى؛ وزاد مهمة الجيش صعوبة أن قوات حميدتي لاذت بالأحياء السكنية، وهذا جعل المدنيين أكثر ضحايا كل اشتباك بين الطرفين.
ومن الواضح من مجريات أمور الحرب، أن كلا من الطرفين ارتكب أخطاء في تقدير قوة الآخر؛ فقد حسب حميدتي أن بإمكانه القيام بضربة خاطفة تقضي على البرهان وكبار صحبه، بينما حسب البرهان وصحبه أن استئصال حميدتي والدعم السريع يقتضي فقط تدمير المعسكرات التي تؤويهم؛ ونتيجة الحرب حتى الآن هي التعادل السلبي، والخاسر الأكبر فيها هو الوطن والمواطن؛ فضحايا الحرب من قتلى وجرحى مدنيين بالآلاف، والخسائر المادية بالمليارات.
التاريخ يفيد بصعوبة، وربما استحالة، القضاء على الجماعات المتمردة المنظمة في السودان وغير السودان؛ فطوال 12 سنة ظلت القوات السورية والروسية تمطر الجحيم على رؤوس معارضي حكم بشار بلا طائل، ولم يفلح الجيش العراقي قط في سحق التمرد في كردستان
قلوب معظم المواطنين مع الجيش، ومن المؤكد أن الجيش سينتصر في معركة الخرطوم، ولكن ذلك سيكون بداية لنزيف شديد في مختلف أقاليم السودان؛ لأن الدعم السريع يختلف عن حركات التمرد التي ظل الجيش السوداني يحاربها على مدى عقود طوال، فوحدات الدعم السريع حسنة التسليح، وتشكل بعددها وعتادها قوة كبيرة، وستنتشر فور اندحارها في الخرطوم هنا وهناك، وتشعل الحرائق في مختلف أطراف السودان.
والتاريخ يفيد بصعوبة، وربما استحالة، القضاء على الجماعات المتمردة المنظمة في السودان وغير السودان؛ فطوال 12 سنة ظلت القوات السورية والروسية تمطر الجحيم على رؤوس معارضي حكم بشار بلا طائل، ولم يفلح الجيش العراقي قط في سحق التمرد في كردستان، وهناك تحالف دولي غير معلن يقاتل حركة الشباب في الصومال منذ سنين عديدة بلا طائل، وأمريكا بكل جبروتها اندحرت أمام مقاتلين قليلي العدد والعتاد في فيتنام ولاوس وكمبوديا وأفغانستان.
إذاً، لا مخرج من حرب السودان الكارثية إلا بالتفاوض، ومهما كابر الطرفان فإنهما باتا يدركان أن جهدهما باء بالخسران، وأن الخاسر الأكبر هو السودان، فقط عليهما أن يدركا أن خير التفاوض عاجله.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
0 تعليق