السويداء.. استئناف الثورة أم الصفقة؟

بواسطة | سبتمبر 10, 2023

بواسطة | سبتمبر 10, 2023

السويداء.. استئناف الثورة أم الصفقة؟

اشتعلت انتفاضة السويداء، في اتجاه معاكس لكل التحركات العربية والدولية والإقليمية، التي استفاد منها نظام الأسد الإرهابي في آخر سنتين، حيث فقدت هياكل الثورة السورية السياسية أي قدرة على التفاوض أو المناورة، بعد أن نجحت خطة استهلاكها وتبديل مهماتها المتعددة من أصدقاء الثورة، ووصلت إلى المرحلة التي تجاوزها الأصدقاء والأعداء معا، وتحول الميدان العسكري إلى مهام تخضع للقرار المركزي الإقليمي، في الشمال عبر تركيا، أو في الجنوب عبر الأردن والظهير العربي والدولي الشريك معها.
هذا يعني أنه بغض النظر عن وجود مخلصين من حملة السلاح، في تلك المجموعات المسلحة التي جُيِّر بعضها لمهام خاصة للإقليم تماما، ولا علاقة لهم بتغيير الموازين لصالح ميدان الثورة، فإن النتيجة على الأرض كانت تحييد كل الهياكل الميدانية والسياسية لتنفيذ خطة تصفية الثورة، في ثوبها العسكري وما تبعه من مشاريع سياسية؛ أما روح الثورة وبقائها في الضمير الوطني وإمكانية بعثها، فهي حقيقة مستقرة اليوم وفي الغد، لكنّنا لا نعرف كيف ومتى ستُبعث؛ وهذا هو السؤال الذي حركته فعاليات السويداء، التي قُدمت ككفاح مدني ثوري اختط برنامج الثورة عند بدء انطلاقتها المدنية، لكن الفرق هنا ليس في علم الطائفة الدرزية فقط، ولكن أيضا في سياقات المشهد الشامل في الداخل السوري وفي محيطه.. وهذا لا يُقلل من أهمية هذا الحراك ولا المشاعر الوطنية المصاحبة له، غير أن تجارب الثورة السورية الصعبة، وأثر الانقسام الطائفي العميق، ونجاح فكرة توظيف الأقليات، كلها حقائق تدعو في هذا الظرف إلى تأمل عميق وعدم التعجل في الحكم.
فالمساحة التي أعطاها النظام للحراك المدني في السويداء، والفرق بينها وبين تحفزه الشرس في درعا لمواجهة حالة مشابهة، تأتي ضمن مجمل موقفه المطْمئِن إلى مآلات مشروع تصفية الثورة، ووجود القوات الحاضنة، بل الراعية له، من موسكو ومن إيران، فضلا عن الميلشيات الطائفية الإرهابية المتعددة؛ أما الأمر الآخر فهو الهوية المذهبية لهذا الحراك، خاصة بعد احتضانه من شيوخ بارزين في الطائفة. وعليه، فإن اعتبار هذا الحراك هو طليعة لاستئناف الثورة المدنية، التي لم تخفت روحها في مناطق الشمال، وبعض الجغرافيا السورية، رغم هولوكوست الضحايا الذي لا مثيل له عربياً منذ عقود في الوطن العربي، بل في الشرق المسلم، هو تقدير متعجل!. ونحن هنا لا نُلغي كل فرص صعود هذه الموجة، واحتمالية اتصالها بالوطنية الثورية المركزية، لكنه احتمال لا يمكن أن نتعاطى معه اليوم بشكل واقعي قبل وضوح المشهد.
ولقد برزت الروح الوطنية الجامعة في الثورة السورية مبكرا في عهدها المدني، وخاطبت الطوائف وسمّت بعض جُمعاتها بأسماء قادتها، وانخرط فيها بالفعل عدد من الشباب والفعاليات، غير أن النظام عاد واخترق تلك اللوحة الجامعة؛ وهناك سيلٌ من النقد، وجهته فعاليات من طوائف سوريا لانحراف الثورة، من خلال ما رآه الجميع بعد ذلك من مآلات توظيف الجماعات المسلحة، واستخدام المذهبية السلفية أو التراثية لتحشيد خطابها. وهذه حقيقة تجسدت في عدة مشاريع تأكد فيها الدور الأمني لأنظمة عربية وإقليمية، غير أن ذلك لا يشمل كل ميدان السلاح ولا روح شهدائه، وإن كانت خارطة التلاعب بالثورة وفسيفساء انشقاقاتها وتعدد مجموعاتها حقيقة مؤلمة، حتى وكأن تلك الخطط قد وجدت محضنا واسعا لاستخدام التمويل في تعزيز الفرقة، وشرذمة فصائلها الميدانية والسياسية، وهذا نقد وُجّهَ من عمق الثورة، ومن المحللين السياسيين والمفكرين العرب، المتضامنين معها.
لكن الحكاية الأخرى، هي أن بشاعة جرائم النظام، ونجاحه في توظيف تكتلات ضخمة من العلويين والدروز، وضمهم في تشكيلاته المتقدمة مع الميلشيات الشيعية المستدعاة من الخارج، عقّد المشهد وفجر الجرح الغائر في أصله؛ وهناك استدراك على هذا الوصف، وهو أن نسبة المقاتلين السُنّة في جيش الأسد، كانت عالية أيضا، والحقيقة أن قلب القوة العسكرية وبعثها في الميدان كان يعتمد على الزخم والبناء الطائفي بعمق، وأن الكتلة السنية كانت جموعا ووقودا يُساق، دون أن يُسقط ذلك جرم أحدٍ فيها؛ وهي كمٌّ من الشعب ليس بالقليل، حتى فيمن رفض الانضمام للثورة، لقلقه من مآلات الرعب التي تحققت بالفعل على الأرض، وانكشاف مساحة الاستخدام الضخمة لأصدقاء الثورة على حساب الضحايا، فهو ملف مشتبك، لكن البعد الطائفي لا يُمكن عزلهُ هنا، حين نحرص على النزول إلى واقعية التفكير والاستشراف لمستقبل حراك السويداء.
 إن لقاء سكاي نيوز العربية، الذي بُث في الأصل للمساهمة في تأهيل النظام، وقد أظهر الرؤية الغبية لبشار الأسد في عدم تحمل أي مسؤولية تجاه الانهيار المعيشي لأوضاع الناس، داخل الجغرافيا الكبيرة الواقعة تحت سلطته، وخاصة بعد أن حُيّد السلاح الثوري عنه، وأصبح مجرد عمليات محدودة تتزامن مع التوتر الإقليمي، فانسحاب الأسد من صورة الرئيس الذي يخرج بعد الحرب ليتحمل مسؤولية الورشة الإنقاذية، كان رسالة عززت حالة الإحباط في روح الشعب الموالي له، والذي تمثل الطائفة العلوية والطائفة الدرزية مساحة مهمة منه. ومع مراجعة كل ذلك الأنين والشكوى من واقع الحياة المعيشية للسوريين، ودخول الليرة إلى التاريخ بانهيار قيمتها، فإن هذا الإحباط متعدد الجوانب قد أثّر على روح تلك المناطق، والتي نحرص دوماً ألّا نفرزها على أساس مذهبي، فكل فرد مسؤول عن موقفه وما جنته يداه، ولا يعمم الموقف على أي طائفة، غير أن توظيف النظام لتلك المناطق، مكنّهُ من السيطرة على مفاصلها الأمنية على أقل تقدير، وبالتالي سيخسر كثيرا لو اضطر للنزول لممارسة القمع العسكري.
وعليه فإن مساحة التفاوض تظل قائمة على أساس توجهات النظام وممثلي الطائفة، بناء على التحالف الضمني ضد الثورة، الذي أشار له أحد أبرز الزعامات الدينية، وأن انسحاب السويداء وارد جدا في نهاية الأمر، فبذلك يكون الحراك مساحة تعبير محدودة لن تصطف مع الثورة، ولكن ستعقد صفقتها مع النظام بناء على التحالف القديم.
 وأتفهم بعمق حلم السوريين، باشتعال البلد في حراك مدني ثوري جديد، يُعجز النظام ويؤكد أمام الداخل والخارج، واقعه القبيح وفقدانه أي أهلية سياسية، فيُمهد هذا العهد الجديد لإزاحته والدخول في مرحلة سياسية، لا عسكرية يُتلاعب بها؛ غير أن التحليل السياسي الواقعي لا يُرجّح هذه الرؤية، وإن بقيت روح الأمل قائمة لسوريا الحُرّة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...