الشأن التركي خليجيّا

بواسطة | مايو 18, 2023

بواسطة | مايو 18, 2023

الشأن التركي خليجيّا

لا يعزب عن نظر المتابع لتطورات العلاقات الاستراتيجية على خارطة الشرق الأوسط -مع بالغ التحفظ على هذا الاصطلاح- خلال العقدين الماضيين، حجم التعقّد الذي يغور في طبائع العلاقة بين دولها.
وبينما نجد الكثرة الكاثرة من جماعات الشرق الأوسط ومجتمعاته، تنسج تصوراتها -حول بعضها البعض- بخيوط الانطباعات التي تتراكم عبر الزمن في المخيال الشعبي، ويكون تراكمها نتيجة للخطاب الإعلامي الخاضع لمقتضيات التوجه السياسي للنظام الحاكم، وتتسم بالصلابة، التي يقتضي تبدلها تحولا مرحليا في الأجيال، أو تحولا وئيدا في الذوات؛ يتكون لدينا مستويان هائلان من التصورات في فضاء الدولة (الشرق-أوسطية مرة أخرى) تجاه جيرانها.
الأول هو المستوى النخبوي، الذي ينضوي تحت لوائه جموع المثقفين والباحثين والخبراء، الذين راكموا -بدورهم- خبرة واسعة من معرفة أحوال المنطقة وتاريخ دولها ومجتمعاتها، ويتسم بقدر من الصلابة أقل من صلابة التصور الشعبي، لأسباب تُمليها علائق الفكر، وينتجها الاصطفاف، أيا يكن ذلك الاصطفاف ودرجته.
أما الثاني فهو المستوى الحكومي، ويمثّله الفاعلون في أجهزة الدولة ومؤسساتها، ويكون في أغلب أحواله شديد المرونة، تابعا لمستجدات البوصلة السياسية والاقتصادية للنظام الحاكم.

المستوى الشعبي والمستوى النخبوي، وبغض النظر عن علاقات القوة والتأثير الثاوية في طبيعة العلاقة بينهما، فإنّ عدسات النظر والقياس التي ينتجانها، لا تفتأ “تميل مع الهوى” حيث مال، وإن اكتست حللا عقلانية، وخامرها -في حالة النخبة- ضرب من النظر وإعادة النظر.

لدينا إذن ثلاثة مواقع رئيسة، يقف النُظّار عليها لقراءة الشأن السياسي -وغير ذلك من الشؤون- في أي دولة مجاورة، قريبة كانت أم بعيدة، لاسيما حين ينجح ذلك الشأن في احتلال حيّز كبير من الاهتمام، مثل الشأن التركي الذي يملأ الدنيا -هذه الأيام- ويشغل الناس؛ ولقد تتوالد من تلك المواقع الاعتبارية الثلاثة: عشرات، بل مئات العدسات التي يُنظر من خلالها. وغنيّ عن الإفصاح ما يعتري تلك العدسات من الخصائص المُجانبة بل المتضادة مع حقيقة الأشياء وواقع مسارها، ما خلا العدسات الماثلة في نطاق التصورات الحكومية، حيث يتيح الوصول للمعلومة لدى صنّاع القرار وطبقتهم الاستشارية الوقوف على حد الحقائق، بنسبة تفوق ما لغيرهم بكثير.
أما المستوى الشعبي والمستوى النخبوي، وبغض النظر عن علاقات القوة والتأثير الثاوية في طبيعة العلاقة بينهما، فإنّ عدسات النظر والقياس التي ينتجانها، لا تفتأ “تميل مع الهوى” حيث مال، وإن اكتست حللا عقلانية، وخامرها -في حالة النخبة- ضرب من النظر وإعادة النظر. وعلة ذلك إنما ترجع لفرط ما يطرأ على الذهن الشعبي، والنخبوي أيضا، من تدفقات خطابية تثيرها الزوابع الأيدولوجية، وتُذرّيها الانحيازات الممنهجة.
ليس هنالك جدال في وجود ثوابت في المسألة التركية، كغيرها من المسائل. والثوابت حين توجد، فإنها لا تستأثر بالمكان لوحدها، إنّما تأتي مقابل متغيرات أو عناصر متغيرة. ينبني على ذلك، وجود آراء تحليلية تنزع إلى التماسك، نتيجة استنادها إلى قياس العوامل المتغيرة على الثابتة في قراءة المشهد التركي واستقرائه، واستخلاص الدروس، وبناء الخلاصات المرحلية المُثلى. ولكن يظل السؤال مهيمنا على فضاء التفكير هنا: على أي أساس تقف تلك الآراء وماذا تخبئ وراءها؟
في البدء، ما ينبغي أن يسترعي اهتمامنا في مساقات الحدث التركي الذي نشهده، هو الموقع الاستراتيجي الذي تشغره الانتخابات في مسارات العالم المشرقي المستقبلية، والعالم العربي تحديدا، والخليج بتحديدٍ أكبر. وأهم مما سبق -منهجيّا على الأقل- استيعاب أن التداخل الكثيف الذي يسم هذا الحدث هو سبب تعقيد المشهد، كما إنه نتاج تعقّد الأولويات والمصالح، ليس داخل المنظومة التركية فحسب، إنما داخل منظومات الدول في الخليج، وداخل هيكل النظام الإقليمي العربي أيضا. إنها البنية وإكراهاتها، التي تجعل من التبسيط “الجحيم المعجّل” للعقول والأفهام والنوازع.
بالوسع، ومن دون جزافٍ ما، أن نضع الاعتبارات الخليجية المحتدمة هذه الأيام إزاء الانتخابات التركية، في مُصنّفات، تساعدنا على تحفيز إجابة مقنعة للسؤال المطروح أعلاه. ولكن قبل الإجابة، ينبغي علينا حقيقةً أن نتمثّل واقع النُظم والأشياء والعلاقات في الخليج، وهذه مهمة ثقيلة، تستدعي عضلات فكرية، تُمكّن من تجاوز الأنساق البالية المألوفة. والمفارقة هنا أن البلى الذي يسوم تلك الأنساق سومَ الركون لا يجعلها تضمحل، إنّما يمتّنها ويشدّ على يديها.

لعل منصات التواصل الاجتماعي في نطاق التفاعل مع الانتخابات التركية قد أسالت غيضا من مداد التعدد والتنوع اللذين يَسِمان مدارات التفكير لدى سكان الخليج والجزيرة العربية.

لا يستقيم التمثّل الدقيق لحقائق الأشياء وعلاقاتها دون استحضار خطوطها التاريخية. فالتاريخ وعاء المسائل، وأفق الأذهان؛ وهو الفاتحة، وتحضر بعد ذلك مقتضيات أخرى مع الوقت، ينبغي استملاكها واستيفاء أغراضها، من أجل مقاربة الحقيقة. والحقيقة حين تتخطّفها رماح الأنفس والأهواء والغفلات، وتصبح من ثَمَّ عُرضة للغمط والاستباحة، تصبح في واقع الحال مسرحا لضمور العقل وتخلّف القلب وانحطاط الزمان.
في الخليج العربي، هنالك خِلجان، لا خليج واحد كما يُتصوّر، وقد رامت العقول القيادية في لحظة تاريخية خاطفة، مضى عليها أكثر من أربعين سنة، توحيد الصفوف إزاء مارد يخرج من قمقمه، أو ما بدا كأنه عدو يتربّص بأنيابه وأظفاره. وهو النظام الإيراني، كما لا يخفى عليك أيها القارئ. والعجب هنا لم يفتر ولم ينقضِ، ولكن أحاله تقادم الدهر المتحالف مع نسق السلوك اليومي المتسارع لدى سكان الخليج، الذين يغالبون خبيب الوقت (والخبيب هو العدو الشديد) إلى اعتياد فاتر، ليس له حظ من المراجعة الفاعلة. العجب كل العجب أن هذه الفكرة الرائعة، هذا الإنجاز المتمثل في مجلس التعاون الخليجي، الذي يُعَد أحد أعظم المشاريع الاستراتيجية في تاريخ الخليج والجزيرة العربية منذ دعوة النبي، قد تحقق بفعل تهديد خارجي، ولم يبصر النور نتيجة دافع ذاتي محض عند قياديي إقليمنا في الخليج، وكأنما قد غلب على الشراكات الأمنية والتكاملات الاستراتيجية الطروء، وأن تكون رهنا لنوائب الأيام، لا أن تكون تطورا طبيعيا لما ينبغي أن يكون عليه حال نُظُم المنطقة، ولما يجب أن تسعى إليه -بشكل دائمٍ دؤوب- النخب السياسية، بما لا يدع مجالا للمساومات الخارجية. وفي هذه الخلجان تنوّع مُعتبَر، وأصوات متعددة، وأفكار جيّاشة، لا كما يظن العرب في القرب، أو في البعد، ولا كما يعتقد إخواننا الفرس والترك. ولعل منصات التواصل الاجتماعي في نطاق التفاعل مع الانتخابات التركية قد أسالت غيضا من مداد التعدد والتنوع اللذين يَسِمان مدارات التفكير لدى سكان الخليج والجزيرة العربية.
تبرز عدة اعتبارات -خليجيّا- في تصنيف انتقالات الحكم في دول المنطقة، في تحليلها وتأويلها، وفي إنصافها واعتسافها، ولقد تتمظهر لنا بوضوح في الانتخابات الرئاسية التركية، كالاعتبارات الأيدولوجية والمصلحية والاقتصادية والجيوسياسية. وتتشظّى تلك الاعتبارات وتمتزج وتقترب وتنأى، بما يصعّب عملية تأطيرها في منظور تحليليٍّ يضم شعثها، ويقيس التوجهات العامة الغالبة، تجاه الرئيس المفضّل لدى الطيف الواسع من شعوب الخليج، قياسا علميّا دقيقا. وهنا مسألتان في غاية الأهمية، الأولى ماثلة في الفارق بين قراءة رجل الدولة، أي المسؤول المُطّلع على أو حتى المشارك في دوائر صنع القرار، وبين قراءة الشخص العادي في الفضاء الاجتماعي للدولة، حتى وإن بلغ مبلغا شميما من التنقيب والمتابعة، حيث يتوفر لدى الأول ما لا يتوفر لدى الثاني، وهو وضوح المآلات المستقبلية للاحتمالات القائمة، وفي حالة الحدث التركي مثلا، يكون لدى المسؤول تصور جليّ إلى حد بعيد حول ملامح المشهد الإقليمي في حال فوز أردوغان من عدمه، بينما قصارى نظر الثاني هو شيء من التكهنات والتوقعات المسنودة إلى معطيات مُركّبة، أي مبنيّة بناء ذهنيّا لما يحتمل أن يكون عليه الواقع في حال فوز أحد الطرفين.

تفاعل الفرد الخليجي مع الشأن التركي، هو تفاعلٌ أيديولوجي بامتياز، ولا ينبغي أن يكون غير ذلك، وذلك لأسباب لها مقامٌ آخر.

أما المسألة الثانية فهي: إن شعوب الخليج تشبه حكّامها، وهذه حقيقة اجتماعية وثقافية، في إنكارها أو في تقييمها، بغرض تقويضها، حَيْدٌ عن الموضوعية، ومجانبة للصواب، بل هي إزاحة اختزالية مُتعمّدة لمنطقِ فهم الأمور. هذا يعني أن معظم شعوب الخليج ينظرون إلى الشأن التركي -وغيره من الشؤون الخارجية- بعدسات حكوماتهم، مع وجود نسب متفاوتة لا تُسلّم بالعدسة الوطنية، وتكثر هذه النسب في أوساط المثقفين والباحثين الجادّين.
أما الإجابة عن السؤال المطروح سلفا “على أي أساس تقف تلك الآراء -آراء الخليجيين المتفاعلين مع الانتخابات التركية- وماذا تُخبّئ وراءها؟” فيمكن اختصارها في بيان أنَ ثمة أسسا لتلك الآراء لا أساسا واحدا، ولكن -بعد الغوص في ثناياها- سرعان ما نجدها تتهشم على صخرةٍ أساس واحد.
إن تفاعل الفرد الخليجي مع الشأن التركي، هو تفاعلٌ أيديولوجي بامتياز، ولا ينبغي أن يكون غير ذلك، وذلك لأسباب لها مقامٌ آخر. وتنقسم هذه الرؤية الأيدولوجية -سواء المؤيدة أو المعارضة لتركيا الأردوغانية في المقام الأول ولتركيا الجمهورية في المقام الثاني- إلى قومية سياسية في حالة العروبيين الذين ينحسرون تدريجيّا، وقومية ثقافية في حالة العروبيين غير المسيّسين، وقومية دينية في الحالة السعودية، ودينية لا قومية في حالة الإسلاميين الحركيين، وأشتات من بقايا الأيدولوجيات الفكرية اليسارية وغيرها.
أما الأساس الأيدولوجي -الظاهر والمختبئ في الآن ذاته- الذي يشكّل كتلة الآراء والتوصيفات والتصنيفات في عموم بلدان الخليج فهو المنظور: القومي-وطني وهي حالة الأغلبية العظمى من أهل الخليج، إذ إنه ميزان الترجيح الذي تخضع له شتّى الأنظار في الخليج، بوعي وبغير وعي. وكيف لا؟ وهو الذي بات يستملك منطق نمو الأواصر وانصرامها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...