الشيخ المحلاوي.. في حضور الجماهير وغيابها!

بواسطة | مارس 24, 2024

بواسطة | مارس 24, 2024

الشيخ المحلاوي.. في حضور الجماهير وغيابها!

بوفاة الشيخ أحمد المحلاوي يكون الستار قد أسدل على جيل كامل من الدعاة الكبار، الذين بدأت مسيرتهم مع الحكم العسكري، وعاصروا حكامه الأبرز، وذاع صيتهم في عهد الرئيس السادات، واستمرت قلة قليلة منهم إلى الطبعة الحالية من هذا الحكم، كان أبرزهم الشيخان القرضاوي والمحلاوي!

المرة الأولى التي سمعت فيها باسم الشيخ أحمد المحلاوي، كانت من خلال “خطبة الوداع” للرئيس السادات، وكان نطقه وضغطه على الحروف والأسماء يعطيها نغمة خاصة، وفي هذه الخطبة ذكر أسماء كثيرة بنطقه الذي يعطي الحروف حقها، بل أكثر من حقها.. فلم يقتصر على المحلاوي وكشك، بل امتد إلى أسماء شابّة في عهده مثل “حلمي الجزار”، وحرص على ذكر وضعه داخل الجماعات الدينية التي شكلها شباب هذه الفترة (أمير أمراء الجماعات الإسلامية)، فتظن أنه مقاتل في الصحراء، من العهود الغابرة في التاريخ، ويتشكل بداخلك معنى الرعب، لتمر السنوات والأيام، وتكتشف أن “حلمي الجزار” ليس أكثر من رجل طيب، يستنجد به ضباط أمن الدولة من أحد أفرع الجهاز عندما تم حصار بعض مباني الجهاز بعد الثورة، فيهرول لنجدتهم، ليكون أول المعتقلين بعد الانقلاب العسكري، وتكلفه قيادة الجماعة من داخل السجون بمهام وهو في الخارج، فيتراجع مؤثراً السلامة والبعد عن المشاكل، لأن اختياره رفض من القيادة  المتغلبة في الخارج.. فهل كان السادات مغرراً به؟!

لم أسمع باسم المحلاوي إلا من خلال هذا الخطاب للرئيس السادات، وإن كنت وقتئذ قد تجاوزت الخامسة عشرة من عمري بثلاثة أشهر، فقد كنت واعياً بتفاصيل الأحداث، ولم تكن هناك صعوبة في التعرف على اسم الشيخ عبد الحميد كشك، والذي اختصه السادات بقصة ظريفة، تبين لي أنها من تأليف السادات نفسه، وذلك من خلال مقابلة صحفية مع الشيخ بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات، وقد رويتها في مقام آخر، لكن السادات كان في حنق من الشيخ كشك لأنه وجه له الدعوة لحضور المؤتمر الذي عقده، وشهد حوارا على الهواء بينه وبين مرشد جماعة الإخوان المسلمين عمر التلمساني، وبدا السادات مهتماً بحضور الشيخ كشك، وبين الحين والآخر كان يسأل الشيخ عبد الرحمن بيصار، شيخ الأزهر: الشيخ كشك لم يحضر؟!

شهرة الشيخ كشك:

كان اسم الشيخ كشك في هذه الفترة وبعدها، كالطبل، وذلك من خلال أشرطة الكاسيت، التي كانت تباع في محلات “الخردوات”، ووصلت إلى خارج مصر، في ما عرف وقتئذ بثورة الكاسيت، وهو انتشار لم يحققه غيره من الدعاة، ولم ينافسه فيه أحد، فظل الدعاة الآخرين في شهرتهم أقرب إلى المحلية، فيعرف سكان القاهرة وربما بعض المحافظات القريبة منها الشيخ يوسف البدري، ويعرف أهالي الإسكندرية ومحافظات الوجه البحري الشيخ المحلاوي، ولم تصل أسماؤهم إلينا في الصعيد؛ بينما انتشرت خطب الشيخ كشك انتشاراً واسعاً، فكنت تسمعه في المواصلات العامة، وينطلق من محلات بيع عصير القصب والمقاهي، وكان المسجد مع الشوارع المحيطة به يكتظ بجماهير المصلين الذين يأتون مبكراً في كل جمعة!

لقد حول الشيخ أحمد المحلاوي مسجد القائد إبراهيم إلى منتدى سياسي يستقبل المعارضين للرئيس السادات، مثل الدكتور حلمي مراد، وزير التعليم الأسبق، والأمين العام لحزب العمل الاشتراكي بعد ذلك!

وقال السادات إن المحلاوي يتطاول على أهل بيته، ثم كانت قاصمة الدهر بأنه وصفه وصفاً لا يليق بمقام الرئاسة أو بمقام الشيخ وزيه الأزهري: “أهوه مرمي في السجن زي الكلب”، وبعد اغتيال السادات قال خالد الإسلامبولي إن من دوافع عزمه على اغتياله أنه قال عن المحلاوي إنه مرمي في السجن كالكلب!

ماذا جرى للرجل؟

وبعد اغتيال السادات، وفي مقابلة مع الشيخ المحلاوي بجريدة “النور” الإسلامية، قال إن غضب السادات منه مرده أن مباحث أمن الدولة نقلت للسادات وصفه للسيدة حرمه، بأنها سيئة مصر الأولى، وإن نفى الشيخ أن يكون قال ذلك، فقد حدثني مصدر إثبات للوصف ممن قال إنه كان يحرص على صلاة الجمعة خلفه.

ولأني مشغول مبكراً بالتحولات التي تطرأ على الأشخاص والجماعات، فقد انشغلت لفترة طويلة بسؤال: ماذا جرى للرجل؟!

بوفاته سألت نفسي: لماذا لم يكن إجراء حوار صحفي على جدول أعمالي، لاسيما في بداية التسعينيات وقد حاورت شخصيات كثيرة، واتصلت لأكثر من مرة بالشيخ كشك في فترات متباعدة لتحديد موعد إلى أن تحقق المراد؟ ولم أعثر على إجابة، فهل كان الشيخ قد انتهى فعلاً في هذا الوقت؟!

لقد عاد الشيخ المحلاوي إلى منبره، في عام 1984 واستمر حتى عام 1996، وكان من الجيل الأول من الدعاة الذي بقي في موقعه، وإذ قام الأمن بهندسة الحالة الدعوية بإبعاد هذا الجيل، وكان آخر من تبقى منه الشيخ عبد الرشيد صقر إمام مسجد المنيل، وقد أبعد، ومنع الشيخ يوسف البدري من الخطابة بعد سقوطه في الانتخابات البرلمانية سنة 1990، ليحل محل هذا الجيل جيل الشيخ عمر عبد الكافي، الذي حل محله بعد إبعاده جيل عمرو خالد وخالد الجندي؛ فإن المحلاوي لم يتم وقفه عن الخطابة مع جيله، ولكن مع جيل عبد الكافي!

ومع ذلك، فلم يعد هو من تُشد إليه الرحال، ولم يعد موضوعاً للصحافة، في حين ظل الشيخ كشك يتوافد الصحفيون إليه، فيقبل نادراً إجراء مقابلات مع بعضهم، ويقلقه أن يتعرض كلامه للتشويه، ولعله من المفارقات أن وفاة الشيخ كشك كانت في العام نفسه الذي تم فيه وقف الشيخ المحلاوي كخطيب تابع لوزارة الأوقاف، التي أبقته في عمله بعد خروجه على التقاعد الوظيفي بأكثر من ست سنوات!

في عام 1984 قرأت في إحدى الصحف القومية خبر عودة الشيخ المحلاوي إلى منبره بعد تعهده للوزير بأن يلتزم بضوابط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، مع صورة للشيخ وهو مطأطئ الرأس في حضرة وزير الأوقاف الأحمدي أبو النور، وفي دلالة لا تخطئها عين.. ما معنى الالتزام؟.. هل هذا اعتراف ضمني بأنه لم يكن قبل ذلك ملتزماً بمبادئ الدعوة؟!

الصحيفة القومية قالت إن اللقاء تم في حديقة مسجد القائد إبراهيم، بينما قرأت مقالاً لأحد تلاميذ الشيخ قبل أيام يذكر أنه كان في استراحة وزارة الأوقاف، وقال الكاتب إن الشيخ ذهب إلى الوزير يحمل حكماً قضائياً يقضي بعودته، وكانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الحكم.. والشيخ كشك قال لي إن دعوى قضائية رفعت أمام القضاء الإداري لعودته، انضمت إليها الأحزاب بما فيها حزب التجمع الوطني الوحدوي (اليساري)، لكن المحكمة قضت برفض الدعوى!

ومهما يكن، فقد كان الاتجاه العام لدى وزير الأوقاف محمد علي محجوب نحو عودة الشيخ كشك، ويبدو أن عودته كانت تجد رفضاً أمنياً، واشترط الوزير لقاء كهذا يسبق العودة، لكن الشيخ كشك اشترط العودة أولاً، ولم يقبل بالصيغة التي جرت مع الشيخ المحلاوي في عهد الأحمدي أبو النور!

هل خذلته الجماهير حقاً؟

عندما كنت أسأل كيف انتهى المحلاوي بهذا الشكل، قال لي أحد المنتمين إلى التيار الإسلامي وهو من الخبراء في هذا الملف، بعد زيارة الشيخ في منزله: “خلص” فلم يعد لديه شيء يقال، ثم إنه يشعر بخذلان الجماهير له باعتقاله.. وأدهشني ذلك، فقاتل السادات قال إن من بين دوافعه هو وصفه لعالم جليل بأنه كالكلب؛ ثم إن مظاهرة خرجت من مسجد الشيخ يوسف البدري قوامها عشرون ألف متظاهر، تستهدف هدم السجن وإخراج المحلاوي منه بالقوة، وتعرض البدري لمناورة من وزير الداخلية النبوي إسماعيل عندما تحدث معه عبر جهاز لاسلكي ووعده بالإفراج عنه خلال أيام قليلة.. وسأل الشيخ الوزير: وماذا إذا لم يتم الإفراج عنه؟ فأجاب الوزير: فليخرجوا في مظاهرات بعد الجمعة المقبلة! لكن مع الليل كان عنده زوار الفجر ليذهبوا به إلى حيث الشيخ المحلاوي!

ربما كان الشيخ المحلاوي يعتقد أن الجماهير ستحول دون اعتقاله، وقد وقفت من قبل ضد قرار وزارة الأوقاف بنقله إلى مسجد آخر، وطالبوه بالاستقالة من الأوقاف وتعهدوا أن يتبرع له كل مصلٍّ بجنيه في الأسبوع تعويضاً عن راتب الأوقاف! بيد أن ما كان يأمل فيه الشيخ، وهو أن تقف هذه الجماهير ضد قرار اعتقاله، يخالف طبائع الأمور. ولأنه كان يشعر بمرارة الخذلان، فقد قبل العودة إلى العمل بهذا الشكل، فلا ضرر منه، بل مدوا له مداً بعد خروجه على المعاش، فقد انتهى كظاهرة معارضة!

بعد سنوات النسيان، نشرت جريدة “المصري اليوم” صورتين تحملان دلالة؛ الأولى لإمام شاب لمسجد القائد إبراهيم، عُرف بحلاوة الصوت، وهو يؤم المصلين في صلاة التراويح، وخلفه – داخل المسجد وفي محيطه وفي الشوارع المؤدية إليه- جماهير غفيرة؛ والصورة الأخرى للإمام السابق للمسجد، الشيخ أحمد المحلاوي، وهو يؤم في التراويح أيضا عدداً من المصلين في زاوية صغيرة بجانب منزله، وهو الذي كان ملء السمع والبصر.. إنه حال الدنيا!

عودة البرادعي:

ولم يستمر ذلك طويلاً، فعندما عاد البرادعي من الخارج وارتفعت آمال المصريين في التغيير، دبت العافية في جسد الشيخ الكهل، وعندما ذهب البرادعي إلى الإسكندرية ليبدأ جولة بعد صلاة الجمعة في مسجد القائد إبراهيم، تخطى الشيخ المحلاوي الرقاب وصعد المنبر، وخطب الجمعة رغم أنف السلطة ووزارة الأوقاف، واستمر خطيباً للمسجد حتى بعد قيام الثورة؛ فلما حدثت الفتنة الكبرى انحاز إلى الرئيس محمد مرسي، وجعل المسجد من أدوات الصراع السياسي، فكان الدفع بالدهماء والغوغاء لحصاره، وكان على الشيخ أن يجنب بيت الله هذه المهزلة.. لكن ماذا يفعل وهو لم يعرف إلا المسجد في نضاله السياسي؟! إنها الروح التي يبثها حضور الجماهير في الجسد حتى بعد ضعفه، وفي انصرافها تخور عزائم الأقوياء!

رحم الله الشيخ أحمد المحلاوي رحمة واسعة!

2 التعليقات

  1. Adel khairi

    الشيخ المحلاوي رحمه الله لم يكن بهذا القدر من الجماهيريه التى وصفتها كان الرجل محدود الأفق سياسيا وفقهيا . فقط خطيب مفوه بصفته خريج لغه عربيه وقد رفعه لهذا القدر ثله من اعضاء الجماعه الاسلاميه فى منتصف السبعينيات . وقد كنت زميلا لابنه أثناء الخدمه كضابط احتياط ولم يسلم هذا الابن من الخروج مبكرا من الخدمه جراء التفاف اعضاء الجماعات الاسلاميه حول الشيخ . وقد زرته مرارا فى بيته الصغير الفقير وقد زهد فى الدنيا ومن فيها .. رحمه الله رحمه واسعه

    الرد
    • عبد النعم العطار

      اختلف معك كثي،ا فالشيخ كان فقيها عالما مفس،ا للقرآن بأروح مايكون ..فمثلا فى أمور الميراث والزواج كان هو العالم الأكبر فى الاسكندريه وحتى وفاته كانت تتوافد عليه الوفود للأسئلة الفقهية وحتى عل. الهاتف فى منزله ..وخطبها الجمعه كانت بحثا فقعيا على أعلى مستوى

      الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...