الصراع على الدولة العربية

بقلم: خليل العناني

| 15 يونيو, 2023

بقلم: خليل العناني

| 15 يونيو, 2023

الصراع على الدولة العربية

لم يتوقف الصراع على الدولة العربية منذ أوائل القرن الماضي، وبعد أن كان الصراع يدور بالأساس بين المحتل الأجنبي والنخب الوطنية، تحول بعد الاستقلال ليغدو صراعا بين هذه النخب، بعضها مع بعض، من أجل السيطرة والهيمنة على الدولة، أو بالأحرى على مشروع الدولة الوليدة آنذاك. وقد حاولت قوى سياسية وإيديولوجية عديدة فرض هيمنتها سواء الفكرية أو السياسية على المجتمع، وإعادة تشكيله من أجل ضمان تأييده في صراعها مع قوى أخرى داخل الدولة. وكانت النتيجة أن هذا المجتمع أصبح مجرد أداة تستخدمها النخب والقوى في صراعها، ولم يعد طرفا مستقلا في اللعبة إلا بقدر ما يسمح به تحقيق مصالح أي منها.

الأصولية السلطوية، ونعني بها تركيز وتجميع السلطة في أيدي فئة قليلة تستخدم كافة أشكال القمع والعنف والإقصاء من أجل البقاء في السلطة والاستئثار بها مهما كان الثمن، تمثل أحد الأسباب الأساسية لسقوط وانهيار الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي

وقد جاء “الربيع العربي” وحاول كسر هذه المعادلة، وذلك من خلال إشراك المجتمع بقواه الحية ليكون فاعلا مستقلا وأساسيا، ربما للمرة الأولى، في بناء دولته وتصحيح بوصلتها؛ ولكن سرعان ما انقلب بعض من هذه القوى عليه، وانقض على حلمه، ودخل في صراع شرس أدى إلى تقسيم وتفتيت المجتمع ذاته، كما هي الحال في سوريا وليبيا واليمن والسودان والعراق. ولم يكن فشل “الربيع العربي” إلا بسبب إصرار الأصولية السلطوية العربية على خنق المجتمع وتأميم المجالين السياسي والعام، بشكل لا يسمح بظهور أية حركات سياسية حقيقية أو مجتمع مدني ناضج وقوي يمكنه أن يشكل بديلا عنها.
الأصولية السلطوية، ونعني بها تركيز وتجميع السلطة في أيدي فئة قليلة تستخدم كافة أشكال القمع والعنف والإقصاء من أجل البقاء في السلطة والاستئثار بها مهما كان الثمن، تمثل أحد الأسباب الأساسية لسقوط وانهيار الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي، وذلك في مفارقة غريبة؛ فالمفترض أن هذه “الدولة” ليست فقط بمثابة الجهاز الأساسي الذي تستخدمه هذه الأصولية من أجل تحقيق وظيفتي القمع والاستئثار بالسلطة، بيد أنها كانت أول من دفع ثمن تفكك وسقوط النخبة الأصولية. وقد تفشّت هذه الأصولية السلطوية طوال العقود الستة الماضية، وقامت بتشكيل مراكز القوى بشكل ممنهج ومؤسسي أدى إلى سيطرتها على المجتمع بشكل لم يضعف فقط كل الوسائط السياسية، كالأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وإنما أيضا وأد ظهور أية بدائل سياسية حقيقية وجادة. لذا، فعندما اندلعت موجة “الربيع العربي” وسقطت بعض أضلاع هذه الأصولية السلطوية، انكشفت حالة الفراغ السياسي الهائل الذي لم يجد من يملأه سوى جماعات وحركات مختلفة تتفاوت فى درجة أصوليتها الدينية والطائفية.
تفشّي الأصولية السلطوية أنتج أيضا جماعات وطوائف منغلقة على نفسها هوياتيا، ومتقوقعة ذاتيا، وهذه ما إن تحن الفرصة حتى ينطلق عقالها وتسعى ليس فقط للانتقام السياسي، وإنما أيضا للتخلص من عقبة “الدولة”؛ فهذه الأخيرة بالنسبة لها ليست مجرد “آلة قمع وإقصاء” وإنما هي بمثابة “عدو” يجب التخلص منه وإسقاطه. حدث هذا في العراق بعد صدام حسين، ويحدث الآن في ليبيا واليمن، وسوريا والسودان وغيرها. وما كان لعواصم وحواضر ظلت قائمة ومتماسكة لعقود أن تسقط بسهولة ويُسر فى أيدي جماعات وطوائف لولا سلطوية هذه العواصم ومن يحكمها، وفشلها في احتواء ودمج جماعاتها، وفصائلها السياسية، والمذهبية، والعرقية.

من المفارقات أن هذه الأصوليات الثلاث (السلطوية والدينية والعلمانية) تتبع فلسفة وإستراتيجية واحدة في التعاطي مع المخالفين لها أو الراغبين في المشاركة بالسلطة هي: الإقصاء والتهميش والاستبعاد.

الأصولية السلطوية كانت أيضا سببا مهما في تغذية وشرعنة الأصولية الدينية. ليس فقط بسبب إغلاقها للمجال السياسي بما لم يسمح بدمج الحركات والأحزاب الأكثر اعتدالا، وإنما أيضا بسبب تأميمها واحتكارها لكل المساحات التمثيلية الأخرى كالبرلمان والنقابات والجامعات، ما أسبغ شرعية على إستراتيجية التحدي التي مارستها الأصولية الدينية تجاه الدولة والمجتمع. كما ساهمت الأصولية السلطوية في زيادة الطلب على الأصولية الدينية، حيث انضم كثير من الشباب لصفوف هذه الحركات باعتبارها البديل الوحيد للأصولية السلطوية. وكذلك ساهم التوظيف الشوفيني لمفهوم الوطنية من قبل الأصولية السلطوية إلى نفور الكثيرين من الدولة كوحدة سياسية جامعة، والبحث عن كيانات أخرى بديلة كالطائفة والقبيلة.
وقد أسهم الصراع بين الأصوليتين، الدينية والسلطوية، في نشوء أصولية ثالثة هي الأصولية العلمانية التي تناصب المتدينين العداء وتتحالف مع الأصولية السلطوية من أجل التخلص منهم، وإن جاء ذلك على حساب منظومتها القيمية والأخلاقية.
ومن المفارقات أن هذه الأصوليات الثلاث (السلطوية والدينية والعلمانية) تتبع فلسفة وإستراتيجية واحدة في التعاطي مع المخالفين لها أو الراغبين في المشاركة بالسلطة هي: الإقصاء والتهميش والاستبعاد. لذا فإن التخلص منها غالبا ما يكون باهظ الثمن، وذلك إما من خلال سقوط وانهيار الدولة، أو عبر تفسّخ وانحلال المجتمع ككتلة واحدة متماسكة. ورغم ذلك تظل الأصولية السلطوية الجذر الأصيل للأصوليتين الأخريين والمحرّك الأساسي لتطرفهما الفكري والسياسي.
تتحمل الأصولية السلطوية، إذا، مسؤولية أساسية عن انهيار مشروع “الدولة” الوطنية في العالم العربي. وهي مسؤولية تتوزع على مرحلتين، أولاهما جرت خلال مأسسة عملية الإقصاء والتهميش وتجذيرها ضمن بنية المجتمع على طريقة “فرق…تسد”، وذلك على حساب جماعات وفئات محلية هُمشت وأُجهضت حقوقها؛ والثانية من خلال رفض التنازل عن السلطة طوعا، أو حتى القيام بإصلاحات حقيقية بعد موجة “الربيع العربي”، وهو ما أفضى إلى ما نشهده الآن من تفسخ وانحلال للدولة العربية بشكلها التقليدي الذي ظلت عليه طيلة القرن الماضي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...

قراءة المزيد
ذلك يوم عزَّ فيه العرب

ذلك يوم عزَّ فيه العرب

" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...

قراءة المزيد
Loading...