الضربة القاضية

بواسطة | أبريل 19, 2024

بواسطة | أبريل 19, 2024

الضربة القاضية

بعد ست سنوات فقط من دخوله عالم الملاكمة، عاد الفتى الأسمر كاسيوس كلاي إلى بلدته حاملاً ميدالية ذهبية أوليمبية!

حدث كبير نعم، لكن بطلنا قرر أن يحتفل به وحده.. لظرف ما لم يتم استقبال البطل بالشكل الذي يليق، وعليه قرر أن يقيم حفلته الخاصة، ويعزف لحنه منفرداً!

بخطوات واثقة دخل أحد المطاعم الشهيرة في بلدته “لويزفيل” بولاية كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل أن ينادي النادل كي يطلب شطيرته المفضلة، جاءه صاحب المطعم ليخبره بهدوء حازم أنهم لا يرحبون بوجود السود داخل المكان!.

يعلم كلاي جيداً أن هوس التمييز العنصري في ذلك الوقت (1960) كان غالباً، لكن ألا يعرف هؤلاء الحمقى لأي رجل يوجهون الكلام، إنه بطل أمريكي، ويحمل في جيبه الأيمن الدليل.. غير أن كل هذا لم يعن لأحدهم شيئا!. غير مصدق أخرج الميدالية الذهبية من جيبه ورفعها عالياً في وجوههم، بيد أن نظرة التعصب كانت هي الغالبة، وعليه خرج الرجل من المطعم بشكل مهين!.

التاريخ يقول إن البطل الأسود لم يُدخل الميدالية في جيبه مرة ثانية، لقد ألقاها في النهر الذي يجري أمامه ناقماً، وهو يتساءل عن قيمة كل هذا الاحتفاء الذي قابلته به الدنيا، إن كان غير قادر على أن يتناول شطيرة في أحد المطاعم.

حدث هذا الموقف لكلاي وهو في الثامنة عشرة من عمره، ويمكننا أن نقرأ في هذا الموقف المبكر طبيعة هذا العبقري، ذلك أن كثُراً يظنون أن منبت العظمة في شخصية الرجل تتأتى من موهبته الفذة، وقبضته التي اكتوى بنارها جل عمالقة الملاكمة في زمانه، وذهب البعض بعاطفية إلى تمجيد الرجل لمجرد كونه مسلماً يتفق معهم في الديانة، وفي ظني أن لا شيء من هذا صنع من محمد علي رقماً صعباً في الحياة.

مما لا شك فيه أن الرجل يملك ذكاء فطرياً، وسرعة بديهة عالية، وخفة دم جعلت من مؤتمراته وبرامجه التلفزيونية حدثاً هاماً كمبارياته تماماً، غير أن المتتبع لسيرة الرجل يمكن أن يضع يده على ثلاثة ملامح في شخصيته، ساعدت بشكل جوهري على جعله أسطورة حقيقية .

أما الأول فهو صرامته الشديدة تجاه معتقداته الشخصية، الرجل يضحك ويمزح، وقد يغني ويرقص، لكن عندما تتحدث عن قناعاته وقيمه الشخصية فيجب أن تحترمها جيداً، وإلا فالويل لك! فنراه في الموقف السابق يلقي بميداليته الذهبية في النهر كي يقول “كفى” في وجه التمييز العنصري، ويمتنع عن الانضمام إلى الجيش الأميركي بسبب مناهضته للحرب على فيتنام وقتل أهلها، ويعلن انضمامه إلى الإسلام – أو بمعنى أدق جماعة “أمة الإسلام”- رغم عداء البيض من الشعب الأميركي لها.. كل خطوة من هذا الخطوات كانت تستتبع مخاطرة كافية لإنهاء حياته، أو الزج به في السجن، أو على الأقل خسارته لجمهوره، لكنه لم يأبه بشيء من هذا، لا شيء يفوق راحة أن تعيش متسقاً مع مبادئك وقيمك، لا شيء أفضل من حرب تخوضها من أجل ما تؤمن به.

أما الشيء الثاني الذي ميز شخصية الرجل فكان ثقته الشديدة بنفسه، تلك الثقة التي ارتفعت كثيراً حتى لامست سقف الغرور، لكنها في الأخير ثقة مبنية على قدراته التي يعرفها جيداً.. من ذكاء المرء أن يراهن على ما يؤمن بقيمته، وكان محمد علي يعرف قيمة موهبته جيداً، كان مؤمناً بنفسه، وبتعبه، ولهذا لم يسقط في اختبار الثقة قط.

في مجال الملاكمة، كان ينظر في عين خصمه، ويخبره بالجولة التي سيرسل له فيها الصاعقة كي تنهي أحلامه.. في مجال السياسة، لم تهزه حملات التخوين إبان رفضه الذهاب إلى فيتنام، وتحدى قرار إيقافه حتى عاد ثانية إلى الحلبة مكلّلاً بالمجد. أما في الحياة الاجتماعية، فكان البطل الأسمر يميل إلى أن يكون محبوباً لا مرهوباً، يختزل معاركه في القضايا الكبرى، ولهذا كان سجله خالياً من المعارك الجانبية.

الشيء الثالث الذي يميز شخصية محمد علي هو الحب، الحقيقة أننا بصدد رجل يحب بتطرف، بدءاً من حبه لنفسه ولجنسه وعِرقه، ذاك الذي ذهب به إلى التصريح مراراً بأن السود هم أفضل خلق الله، وأنه من الغباء أن يتزوج أسود من امرأة بيضاء، مروراً بحبه للعبة الملاكمة، التي تعامل مع حلبتها بشكل مخالف لكل من جاء قبله، واخترع لها أغنية خاصة “طف كالفراشة.. السع كالنحلة”، وانتهاءً بحبه لعقيدته الدينية، والتي لا يترك أبداً مناسبة إلا ويتحدث عنها، وعن عظمة الله الذي عرفه عن طريق الإسلام.

جديته في معاركه، ثقته بنفسه وموهبته وقرارته، حالة الحب والشغف التي تتملكه.. هذه الثلاثية كانت هامة جداً في صنع شخصية البطل “محمد علي”، وتنضح في جوانب شخصيته المختلفة، بل وتؤثر على رؤيتنا له، فنراه يحمل وجهاً هو خليط من براءة الطفل وصرامة المحاربين القدماء، يملك لساناً يُضحكك ويخيفك ويؤثر فيك في الوقت نفسه، يملك القدرة على التعبير عن مكنونات نفسه بسهولة، حتى لتظن حين تستمع إلى حواراته ولقاءاته وكأنه قد جهز إجابات الأسئلة سلفاً.

وفي أخريات حياته تخلى الرجل عن شيء من عصبيته تجاه بعض القضايا، تسامح مع الرجل الأبيض مؤكداً أن تطرفه تجاهه كان نابعاً من تطرف المعسكر الآخر، كما اعتدل الرجل في نظرته للمرأة، واعترف بخطئه حينما قال إن دورها محصور فقط في المنزل، مؤكداً أن مجتمعاً لا يحترم دور المرأة سيخسر الكثير، كان يبتسم في ود متذكراً خصوم الماضي في حلبة الملاكمة، متمنياً أن يكونوا أحياء كي يجلسوا سوياً متندرين على ما فعلته بهم الأيام، وكيف أن ضربة الزمن هي فقط التي يمكن تسميتها بـ..”الضربة القاضية”!.

4 التعليقات

  1. وفاء محمد محمود

    محمد على كلامى أسطورة فى الملاكمة وأنت أسطورة فى الكتابة ❤️❤️🌹🌹

    الرد
  2. رحيق شهاب الدين

    (الثبات على المبدأ، الثقة، الشغف)
    ويا لها من صفاتٍٍ عظيمة صنعت بطل وأيقونة وأسطورة الملاكمة الأعظم محمد علي كلاي! رحمة الله تغشاه وأدخله جنات النعيم.

    إبداعٌ وتميُّزٌ في الطرح، شكراً جزاك الله خيراً وبارك الله فيك أستاذ كريم.🤍

    الرد
  3. سوسن بلطي

    احسنت لاول مرة اقرأ مقالا رائعا عن اكثر شخص اثَر في مراحل طفولتي
    هو عبقري في الملاكمة و انت عبقري في الكتابة بوركت 🙏

    الرد
  4. سارية

    الهزيمة هزيمة الداخل
    كان منتصرا في داخله أولا
    وذكيا في إبراز نصره خارجه

    أنصح بمشاركة المقالة مع الأبناء ومناقشة مادتها معهم.. ستكون جلسة ماتعة ومفيدة للجميع..

    شكرا لك.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...