العربي ومأزقه القيمي اليوم
بقلم: نبيل البكيري
| 11 يوليو, 2023
مقالات مشابهة
-
ذلك يوم عزَّ فيه العرب
" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات...
-
العلم النافع: أساس التدبّر والتمكين
-
لم يخترع محمد علي الذرة!
أزمة الفنان، والمقاول، محمد علي، مرتبطة بمحنة...
-
الوثنيّة وأسبابُها.. بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم
إلى جانب الجاهليّة التي كانت تمثّل الصّنميّة...
-
دولة تسير إلى حتفها!
عندما يريد الله تعالى أن يهلك الباطل ينصّب عليه...
-
وزارة الحقيقة.. حكاية رواية «1984»
قبل حلول كريسماس عام 1936 بأيام قليلة، دخل صحفي...
مقالات منوعة
بقلم: نبيل البكيري
| 11 يوليو, 2023
العربي ومأزقه القيمي اليوم
عُرفت عن العرب قيمٌ وخصالٌ غابت عن كثير من أقوام هذه البسيطة ممن حولهم، وكانت هذه القيم والخصال هي رأس مال هذا العربي، تميزه عن غيره وتحميه، ويحتمي بها من هجير ووحشية ظروفه القاسية المحيطة به، بل وتغلَّب بهذه القيم على كل ما حوله، وفي مقدمة ذلك هجير صحرائه القاحلة من كل شيء إلا من قيم هذا العربي الأصيلة، التي مثلت له طوق نجاة وجوده وبقائه في أرض مقفرة من كل شيء.
كثيرة هي تلك القوالب الوصفية الجامدة للعربي قديما وحديثا، التي صورت هذا العربي وجعلته حبيس حدود أوصافها الجامدة والجاهزة، كبداوة العربي وجلافته وهمجيته؛ وعند البحث والتنقيب يتكشف لنا أنها مجرد أحكام مغلوطة كرسها المستشرقون وطلابهم، و لا تمت بصلة إلى حقيقة العرب وحياتهم وسرديتهم الثقافية التي دونوا فيها كل شيء؛ وبقليل من الإنصاف والدقة في الإبحار في أدب العرب وسيرهم وأخبارهم ستنقلب هذه الصورة النمطية إلى كذبة كبرى.
لا شك أن المجتمعات البشرية كلها، تمضي وفق صيرورة تحولات كبرى، وأن هذه التحولات تمضي بنا من جيل لآخر، وكل جيل يأتي يفقد شيئا من قيمه السابقة، ويكتسب قيما جديدة وافدة
لسنا الآن في وارد الحديث عن تلك القيم، وقصصها المتناثرة في متون أشعارهم وأخبارهم وحواشيها، ولكننا بصدد التساؤل عن تلك القيم اليوم، وأين هي؟ وما الذي أصابها لتبدو بهذا الضمور والغياب الكبير عن واقع العرب وحياتهم المعاصرة؟. لماذا غابت قيم العرب العظيمة، وبدأت بالاضمحلال والغياب رغم ما تزخر به مدوناتهم الثقافية وسردياتهم الشعبية والاجتماعية المختلفة شعرا ونثرا وحكايات؟.
لا شك أن المجتمعات البشرية كلها، تمضي وفق صيرورة تحولات كبرى، وأن هذه التحولات تمضي بنا من جيل لآخر، وكل جيل يأتي يفقد شيئا من قيمه السابقة، ويكتسب قيما جديدة وافدة، وليس شرطا أن تكون القيم الوافدة تشابه قيمه القديمة، وقد تكون نقيضا لها؛ لكن تبقى ثمة قيم حاكمة تحكم مسار هذه المجمعات، وينبغي أن تستمر، كما ينبغي الحفاظ عليها باعتبارها قيما مركزية وجوهرية، لكن أكثر ما يُضرب في زحمة تحولات المجمعات هو، للأسف، تلك القيم الحاكمة والمركزية.
فالكرم والشهامة والنجدة -مثلاً- كانت قيما عربية مركزية حاكمة، وكانت هي من ترسم ملامح الشخصية العربية والمجتمع العربي، ومن لا يتصف بهذه القيم تُظن بعروبته الظنون؛ وكانت هذه أعلى مراتب القيم العربية، فالكرم والنجدة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، كانت قيما تحضر في حياة العربي وتزيد وتنقص، لكنها لا يمكن أن تختفي تماما من حياته وعلى امتداد جغرافيته، فحيثما غابت هذه القيم كانت تنتهي مضارب العرب وتخومهم.
لكن، ما الذي جرى اليوم؟ ولماذا أُصيبت هذه القيم بمقتل بعد أن كان الكرم والشهامة والنجدة والنخوة أهم قيم العرب وزوادة الصحراء المقفرة من كل شيء إلا من هذه القيم؟!. لقد كانت هذه القيم بمثابة بصمة لهذا العربي، وجزءا من تكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي، وما كان ممكنا أن يُحاكَم العربي لغير هذه القيم.
لقد ارتبط كل شيء بهاتين القيمتين العظيمتين من قيم العرب الخالدة، الشجاعة والكرم، ولا يمكن أن تكون عربيا صميما ما لم تكن لديك مسحة من هذه القيم، ولا يهم بعد ذلك حجم ذلك في ذاتك، قليلا أو كثيرا، المهم هو عدم انفكاك العربي عن هذه القيم في حله وترحاله
لقد سجل الشعر العربي صورا ناصعة من قيم الكرم والشجاعة والمروءة، حتى أن الشعر باعتباره ديوان العرب، كان محكوما بصورتين متناقضتين تماما، وهما المدح والهجاء، وكانتا أهم موضوعات هذا الشعر وأحاديثه الدائمة، وتقفان بين ثنائية الكرم والبخل، والشجاعة والجبن، والنجدة والخذلان؛ وهي صفات كانت لا تنفك عن تأطير وتأثيل صورة العربي الحقيقية عبر تاريخه الزمني والمكاني. فحينما يقف الشاعر العربي ويصور هذه الثنائية الحاكمة لذهنية العربي عبر الزمن، مخبرا أن السيادة والزعامة لا تنفك ارتباطا بالشجاعة والكرم، وأن لا أحد يمكنه الوصول إليها من دون المرور عبر بوابة الشجاعة والكرم، والجود والإقدام، كما يعلن أبو الطيب المتنبي في قوله:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلهم … الجودُ يفقرُ والإقدامُ قتَّالُ.
فهذا يعني أن هذه الثنائية، الكرم والشجاعة، كانتا أداة اكتمال الشخصية العربية، وعنوان حضورها وبروزها، ولهذا ظلت هذه القيم حاضرة ليس فقط في صحراء البدوي العربي، ولكن حتى في حواضره ومدنه الكبيرة، التي ظلت تحضر فيها هذه القيم وترسم ملامح الشخصية العربية المتمدنة والبدوية على حد سواء، وإن بدرجة أقل مما كان عند القائم في بوادي العرب ومضاربهم.
لقد ارتبط كل شيء بهاتين القيمتين العظيمتين من قيم العرب الخالدة، الشجاعة والكرم، ولا يمكن أن تكون عربيا صميما ما لم تكن لديك مسحة من هذه القيم، ولا يهم بعد ذلك حجم ذلك في ذاتك، قليلا أو كثيرا، المهم هو عدم انفكاك العربي عن هذه القيم في حله وترحاله، ولهذا حضرت في المدونة والسردية العربية صور الكرم الحاتمي نسبة لحاتم الطائي، لا باعتباره بطلها الأوحد، ولكن لكونه حاز أعلى مراتب هذا الكرم العربي، لكنه لم يستأثر بها دون غيره، بل كان بمثابة النموذج الأكمل لكرم العربي في حينه.
لكن، ما الذي أصابنا اليوم؟ ولماذا تراجعت صورة العربي اليوم، ولم تعد رديفة تلك القيم، وخفت حضور تلك القيم العظيمة؟ ما الذي تغير اليوم؟ ألم يعد لتلك القيم العربية حقاً حضورها وفعالياتها في تكوين الشخصية العربية المعاصرة؟ وما هي أسباب هذا التراجع للقيم وضمورها؟ هل لمفهوم الدولة الحديثة، ومناهج التعليم واشتباكات السياسي والثقافي وصدام القديم والجديد دور في كل ذلك؟ وما مدى استعادة دالة القيم العربية العظيمة التي شكلت ملامح العرب طويلا وكانت رديفة لهم وجزءا من تكويناتهم النفسية والثقافية؟.
إن أزمة ومأزق القيم العربية اليوم، يتطلبان معالجات حقيقة، وترتكز هذه المعالجات بشكل رئيس على مناهج الدرس التربوي، كما ترتكز تاليا على صورة العربي في الإعلام، تلك الصورة المسخ والمشوهة التي لا تشبهه
فما الذي جرى ويجري اليوم في عالم القيم العربية؟ وهل شكل فعلا حضورُ الدولةِ الحديثةِ اليوم ومناهج تعليمها وأنماط تسييرها للشأن العام أحد المشكلات التي تسببت في اضمحلال وتراجع القيم العربية الأصيلة الحاكمة؟ وإلى أي حد يمكن القول إن مشكلة السلطوية العربية ساهمت في ضرب هذه القيم وتهميش المجتمع وتدجينه وضرب كل ما له علاقة بمساحة القيم العربية الأصيلة، وتجريد المجتمع من هذه القيم شديدة الارتباط بصورة وذات الإنسان العربي ومصدر حريته وفعاليته؟.
فالدارسون للمجتمعات العربية وحضارتها، كغوستاف لوبون وغيره، يدركون إلى أي مدى كانت حضارة العرب ملهمة لغيرهم، لا ببنيانها، وإنما بقيمها التي لا وجود لها في حضارات الآخرين، وأن هذه القيم ظلت تشكل طاقة ووقودا للعرب على مسرح الأحداث، حتى جاء الإسلام فاكتملت بذلك دائرة القيم لديهم وانطلقوا بها في مسرح التاريخ حضارة ومجدا، وبتلك الصورة التي استكملها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
إن أزمة ومأزق القيم العربية اليوم، يتطلبان معالجات حقيقة، وترتكز هذه المعالجات بشكل رئيس على مناهج الدرس التربوي، كما ترتكز تاليا على صورة العربي في الإعلام، تلك الصورة المسخ والمشوهة التي لا تشبهه؛ وبمعنى أخر، نحن بحاجة ماسة وحقيقية للعودة إلى التراث العربي، وإعادة إنتاجه بقوالب جديدة، قصة ورواية وحكاية تتناسب وسوق الميديا المفتوحة على مصراعيها اليوم، نحن بحاجة لتقديم صورة العربي خالية مما علق بها من تشوهات ورواسب عصور الانحطاط القيمي الحديث.
ما أقوله هنا، ليس مجرد تخوفات مبالغ فيها، ما أقوله اليوم هو واقع نعيشه؛ وهذا الواقع المعيش، والذي نشاهده في كل المجتمعات العربية اليوم، وفي داخل حدود دويلات سايكس بيكو العربية وكنتوناتهم المغلقة على كل عربي، والمفتوحة لكل أغراب العالم.. ما نقوله هو ما نشاهده كل يوم في صورة المثقف العربي المزيف، والسياسي المرتزق، والفنان الجاهل، كما نشاهدها أيضا في صورة الدراما العربية المنحطة، التي تقدم لنا اليوم صورة لعربي لا يشبه العرب مطلقا، ما نقوله اليوم هو الواقع الذي بات يكرس حالة من التمزق والانسلاخ عن القيم العربية الأصيلة، وهو ما تعكسه صورة الذات العربية المحطمة والمنكسرة والمنهزمة اليوم.
مهتم بالفكر السياسي الإسلامي
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان
كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...
ذلك يوم عزَّ فيه العرب
" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...
0 تعليق