العرض المستباح

بواسطة | يناير 7, 2024

بواسطة | يناير 7, 2024

العرض المستباح

تربى جيلنا على موقف عربي رسمي، يشدد على أن العرب أمة واحدة، وأن فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، وأن الكيان الصهيوني هو جسم سرطاني زرعه الاستعمار في جسدها، وأنه هو عدوّها الأول، وأنها لن تهدأ حتى نلقيه في البحر؛ وتربى الجيل الذي قبْلنا على أن أرض فلسطين أرض عربية، من النهر إلى البحر، وأنه لن يفرّط بحبة تراب واحدة منها، وعلى رفض قرار الأمم المتحدة الذي يعترف بإقامة دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وعلى مواصلة النضال لإفشال المخطط الاستعماري وطرد العدو الغاصب من فلسطين.. وليت الأمر ظل على هذا الحال!!

تحولات السياسة العربية: من القضية الفلسطينية إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني

أصبحت المصالح الوطنية لكل دولة على حدة تتصدر كافة أولوياتها دون اعتبار لأضرار هذه الأولويات الوطنية على المستوى القومي، وكان من نتائج ذلك أن تظل فلسطين وحدها هي العرض العربي المستباح حتى اليوم.

الجيل الذي جاء بعدنا بدأت تتسلل إليه مبادئ وشعارات رسمية أخرى، لم تعد فيها القضية الفلسطينية ضمن أولويات أجندتها الوطنية، وأصبحت تعترف بالكيان الصهيوني وتقبل به ضمن الجغرافيا العربية، وتدعو إلى السلام معه لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي، وبدأت القضية الفلسطينية تنحسر شيئاً فشيئاً لتصبح على المستوى الرسمي قضية الفلسطينيين وحدهم، بعد أن انفرط عقد العرب وانهارت مؤسساتهم القومية، وأصبحت المصالح الوطنية لكل دولة على حدة تتصدر كافة أولوياتها دون اعتبار لأضرار هذه الأولويات الوطنية على المستوى القومي، وكان من نتائج ذلك أن تظل فلسطين وحدها هي العرض العربي المستباح حتى اليوم!

استمرار مسلسل التنازلات

التنازل الأفظع والأبشع في سلسلة هذه التنازلات؛ بدأت تتربى عليه الأجيال الحالية، حيث تساقطت جميع الشعارات التي تربينا عليها نحن ومن سبقنا ومن لحقنا، فالقضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب المركزية، والكيان الصهيوني اليوم ليس كياناً غاصباً محتلاً، وليس عدوّاً، وإنما دولة مجاورة متقدمة ومتطورة لا بدَّ من تعزيز العلاقات وتنشيط التعاون معها في كافة المجالات. وقامت بعض الدول العربية بخطوات متقدمة جداً فاقت توقعات الكيان الصهيوني وجميع حلفائه، خطوات بدا معها وكأن دولة الكيان الصهيوني دولة أصيلة كانت منسية، ولم تشكل تهديداً للمنطقة في يوم من الأيام، بل أعرب البعض عن تقصيرهم في حقها وأسفهم على السنوات التي مضت دون إقامة علاقات كاملة معها.

لم يكن الأشد بشاعة وفظاعة من ذلك إبرام اتفاقيات تعاون، وإطلاق عملية تطبيع كاملة مع الكيان الصهيوني في كافة المجالات، وتغيير مناهج التعليم في جميع المراحل، وتغيير مضامين الخطاب الإعلامي وسياسات التحرير لكافة الوسائل الإعلامية بما يتوافق مع ذلك؛ وإنما كان الأشد بشاعة وفظاعة وتطرّفاً وانقلاباً وتنازلاً؛ التأكيد على أن دولة الكيان الصهيوني لا تشكّل أي تهديد للمنطقة العربية، وأن التعاون معها سيعزز استقرارها وأمنها، وسيفتح الباب واسعاً أمام الكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة التي ستعود بالتطور والرفاه على الجميع؛ وفي المقابل أصبحت المقاومة الفلسطينية ومن يدعمها ويتعاون معها، هم العدو الأكبر الذي يهدد المنطقة ويزعزع استقرارها، وصار مطلوباً من الدول العربية أن تتعاون مع دولة الكيان الصهيوني لمواجهة هذا العدو، وملاحقته والتضييق عليه، بغية استئصاله والقضاء عليه؛ وكان في مقدمة ذلك إدراج جميع حركات المقاومة ضمن الجماعات الإرهابية.. ومن هنا لم يكن غريباً أن تتواتر المعلومات حول تعاون بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على قطاع غزة، ومطالبته بالقضاء التام على المقاومة، ورفض وقف إطلاق النار قبل تحقيق ذلك.

قد يتفهم المواطن العربي التحولات التي مرّت بها الدول العربية، ولكن الذي لم يستطع أن يتفهمه حتى الآن هو: لماذا ظلّت الدول العربية رهينة للمستعمر، ولم تتحرك إلى الأمام لصالح شعوبها.

الإجابة الصعبة

سلسلة تنازلات عربية رسمية تدريجية، انتهت إلى نسف الحقائق وتزوير التاريخ وقلب الموازين رأساً على عقب في أقل من خمسين سنة، دون مقابل يستحق الذكر، تاركة الجماهير العربية في حيرة بالغة من أمرها، وهي تحاول فهم حقيقة الأسباب والدوافع التي أدت إلى تقديم هذه التنازلات، وفهم دلالاتها والنتائج المترتبة عليها، خصوصاً وأن عدداً من هذه الدول لم تخض حروباً مع الكيان الصهيوني، وليست فقيرة تحتاج إلى من يدعمها اقتصادياً، وتستطيع شراء وصناعة كل ما تحتاجه من التكنولوجيا والدواء والغذاء والأدوات والمعدات المدنية والعسكرية، وغير ذلك من الحاجيات، بل إن عدداً منها يمتلك جيوشاً قوية مدرَّبة ومجهَّزة بأسلحة حديثة متطورة قادرة -عند الضرورة- على الاشتباك بكفاءة عالية، فلماذا إذاً حدثت هذه التنازلات؟ مازال السؤال قائماً ومفتوحاً لكافة التخمينات، ومعه كذلك الحديث عن دلالات ذلك وما يمكن أن يترتب على التنازلات مستقبلاً.

هذا الغموض يأخذنا إلى ضرورة فهم السياق التاريخي لنشأة الكيان الصهيوني، في أربعينيات القرن الماضي، وما سبقها من تحولات سياسية كبرى لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الأولى (١٩١٤م- ١٩١٨م)، مثل سقوط الدولة العثمانية وتوزيع تركتها الجغرافية على الدول الأوروبية المنتصرة، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا اللتان قامتا بإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية. ومن هذه التحولات كذلك؛ الثورات الأوروبية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في الفترة من ١٩١٧م حتى ١٩٢٣م بعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا، والتي مهدت للحرب العالمية الثانية (١٩٣٩م- ١٩٤٥م)، التي دخلت الولايات المتحدة فيها لأول مرة كأبرز اللاعبين في أوروبا والشرق الأوسط، ليتم بعد هذه الحرب إعادة بناء النظام العالمي القائم حالياً بزعامة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، النظام الذي ينتظر تفكيكه لصالح بناء نظام عالمي جديد يحقق مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية القادمة، التي لا تقتضي الضرورة أن تكون حرباً عسكرية فضلاً عن أن تكون نووية.

هذه التحولات أوجدت نظاماً جيوسياسياً عربياً جديداً، ظل مرهوناً للقوى الاستعمارية التي ورثته بعد الحرب العالمية الأولى من جهة، وللولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللتين تزعمتا النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١م؛ انتقلت الدول العربية التي كانت تدور في فلكه إلى الفلك الأميركي.

لم تقف هذه التحولات عند هذا الحدّ، فقد شهدت المنطقة العربية في مسيرة تشكّلها الجديدة على أيدي الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية نزاعات عديدة؛ تارة مع الكيان الصهيوني الدخيل، وتارة بين الدول العربية بعضها مع بعض، أو بين مراكز القوى في الدول العربية نفسها.. هذه التحولات رسمت المشهد النهائي لخارطة الأنظمة العربية وعلاقاتها الداخلية والبينية والخارجية على النحو الذي نشهده حالياً.

قد يتفهم المواطن العربي هذه التحولات، ولكن الذي لم يستطع أن يتفهمه حتى الآن هو: لماذا لم تتحرك الدول العربية إلى الأمام لصالح شعوبها، وظلت رهينة للمستعمر، وجلّ حراكها يخدم أهدافه ومصالحه بعيداً عن تطلعات شعوب المنطقة ومصالحها، لتصل القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، ويصل الانكفاء العربي عنها إلى الدرجة التي جعلها مستباحة طيلة هذه السنين؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...