العشر الأول من ذي الحجة.. وفقه العمل الصالح فيها

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 23 يونيو, 2023

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 23 يونيو, 2023

العشر الأول من ذي الحجة.. وفقه العمل الصالح فيها

في هذا المقال نتطرق إلى فقه الأعمال الصالحة فيها، وكثرتها وتنوعها، فإنها لا تنحصر بصلاة وصوم وصدقة -وإن كانت من أعظمها- وفضل الله على عباده عظيم وهو أرحم الراحمين.

قال علي القاري: روى أبو عوانة في صحيحه: «صيام يوم منها يعدل صيام سنة، وقيام ليلة منها كقيام ليلة القدر»

أولاً: أقوال بعض العلماء في فضل العشر من ذي الحجة
1- قال ابن قدامة المقدسي: وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها، ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها؛ لما روى ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء”. [المغني، ابن قدامة المقدسي، 4/443].
2- قال النووي رحمه الله في المجموع: ليستكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة. وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما العمل في أيام أفضل منه في هذه، يعني أيام العشر. قالوا: ‌ولا ‌الجهاد قال: ‌ولا ‌الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء). [المجموع شرح المهذب، يحيى بن شرف الدين النووي، 117/8]
3- قال علي القاري: روى أبو عوانة في صحيحه: «صيام يوم منها يعدل صيام سنة، وقيام ليلة منها كقيام ليلة القدر»، واختُلف في أفضل العَشرين، فقيل: عشر رمضان أفضل من حيث لياليه لأن منها ليلة القدر، وهي أفضل الليالي، وعشر ذي الحجة أفضل من حيث أيامه لأن فيها يوم عرفة وهو أفضل الأيام، وذهب ابن حبان إلى تساويهما في الفضل، وألحق الغزالي وغيره بعشر ذي الحجة فيما ذكر عشر المحرم. [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي القاري، (4/1429]

يستحب التبكير إلى الفرائض والمسارعة إلى الصف الأول والإكثار من النوافل فإنها من أفضل القربات

ثانياً: الأعمال الصالحة في العشر الأول من ذي الحجة:
حري بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة النصوح، وذلك أنه ما حُرِم أحد خيرا إلا بسب ذنوبه، سواء كان خيرا دينيّاً أو دنيويّاً، قال تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾[الشورى: 30]. فالذنوب لها آثار خطيرة على القلوب، وكما أن السموم تضر الأبدان ولابد من إخراجها من الجسم، كذلك الذنوب تؤثر على القلوب تأثيرا بليغا، منها أن المعاصي تزرع أمثالها وتجر أخواتها حتى يصعب على العبد مفارقتها والخروج منها. فسارع – أخي المسلم – إلى التوبة النصوح، واستقبل هذه الأيام بالبعد عن المعاصي والذنوب، وأكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل فلا يعلم أحدنا متى يفجؤه الموت، ويرحل عن هذه الدنيا. [دروس العشر من ذي الحجة، عبد الملك القاسم، ص 5].
 وإن من الأعمال التي لا تغيب عن أصحاب الطاعات في استقبال عشر ذي الحجة:
1- الإكثار من الأعمال الصالحة: لقوله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر”، ومن الأعمال الصالحة التي غفل عنها بعض الناس: قراءة القرآن، وكثرة الصدقة، والإنفاق على المساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
2- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض والمسارعة إلى الصف الأول والإكثار من النوافل فإنها من أفضل القربات، عن ثوبان – رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة” [رواه مسلم]، وهذا عامٌّ في كل وقت.
3- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر” [رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي]، قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: “إنه مستحب استحبابا شديدا”.
4- أداء الحج والعمرة: لقوله صلى الله عليه وسلم: “…والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” [رواه مسلم].
5- التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: “فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”. وقال الإمام البخاري: “كان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما”. وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات على فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعا.

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة –أي الفجر– جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس. [أخرجه مسلم].

6- الإكثار من قراءة القرآن: فإن القرآن، كما وصفه الله عز وجل، هدى للمتقين: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾ [البقرة:2]. وقد قال عليه الصلاة والسلام: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألَمّ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف” [رواه الترمذي]
7- الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة –أي الفجر– جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس. [أخرجه مسلم]. وأخرج الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة” [رواه الترمذي]. هذا في كل الأيام فكيف بأيام العشر المباركة؟.
8- الصدقة: وهي من أبواب القربات المشروعة طوال العام، وقد أجزل الله عز وجل العطية للمنفقين فقال تعالى: ﴿من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً﴾ [البقرة: 245]، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ولو بالقليل، ووعد بالأجر الجزيل للمتصدقين فقال صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشق تمرة” [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله… ” ، وذكر منهم “… ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه” [متفق عليه].
9- أداء الصلاة مع الجماعة: فالصلاة أمرها عظيم. قال صلى الله عليه وسلم: “رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله” [رواه الترمذي]؛ وهي أول ما أوجبه الله تعالى من العبادات، وهي آخر وصية وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عند موته فقال: “الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم” [رواه أحمد]؛ وهي آخر ما يُفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله، قال صلى الله عليه وسلم: “لتُنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة” [رواه أحمد].
10- المحافظة على الوقت: فإن رأس مال المؤمن في هذه الدنيا هو وقته الذي يزرع فيه للدار الآخرة. يقول صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك” [رواه الحاكم وصححه الألباني].

تأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم خطورة اللسان وكيف يهوي بصاحبه: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب” [رواه مسلم]

11- صيام يوم عرفه: يتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم عرفة: “أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده” [رواه مسلم].
12- قيام الليل ولو بركعات قليلة: فقد أثنى الله عز وجل على أهل الجنة بعدة صفات منها قيام الليل؛ فقال تعالى: ﴿كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون﴾ [الذاريات: 17]، وقيام الليل سنة مؤكدة حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد” [رواه أحمد].
13- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن منزلته عند الله عظيمة ودرجته رفيعة حتى عده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، وقدمه الله عز وجل على الإيمان به سبحانه، كما في قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ [آل عمران: 110]، وفي هذا التقديم بيان لعِظم شأن هذا الواجب وأهميته وحاجة الأمة إليه.
 14- غض البصر عن الحرام: من نعم الله عز وجل التي أنعم بها علينا نعمة البصر، وهي نعمة لا تقدر بثمن، وقد أمر الله عز وجل بغض النظر عن الحرام فقال تعالى: ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخُمرهن على جيوبهن﴾ [ النور: 31]، وقال صلى الله عليه وسلم: “النظر سهم مسموم”[رواه الحاكم].
 15- حفظ الجوارح ومن أهمها اللسان: فإن خطره عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: “الفم والفرج” [رواه الترمذي]، وتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم خطورة اللسان وكيف يهوي بصاحبه: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب” [رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” [رواه مسلم]. [فتاوى الحج والعمرة، ص10-21].
 إن هذا يستدعي من العبد المسلم الاجتهاد في استقبال عشر ذي الحجة، والاعتبار من قيمتها ووزنها في الأعمال الصالحة. وهذه خلاصة الكلام في بيان فضل عشر ذي الحجة والأعمال المستحبة فيها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...