العمل الإغاثي بين مقصد الحرية والاستعباد التطبيقي وغياب الرساليّة

بواسطة | مايو 1, 2024

بواسطة | مايو 1, 2024

العمل الإغاثي بين مقصد الحرية والاستعباد التطبيقي وغياب الرساليّة

ما من شك في أن العداء السافر للعمل الخيري والإغاثي ــ لا سيما الفاعل في بلاد الأزمات الطويلةــ واستهدافه بتجفيف المنابع، وملاحقة العاملين فيه، وترهيبهم بشمّاعة الإرهاب ودعمه، في حالة تفرضها قوانين التدافع التي تحكم البشرية، بين الخير والشر وبين الحق والباطل؛ قد أسهم في إحداث إرباكات كبيرة في بنية العمل ومؤسساته وآليات التنفيذ.

غير أنّ هذا لا يعني تبرئة العمل من وجود مشكلات في بنيته ومنهجية تعاطيه مع الأزمات الطارئة والطويلة.. وحصرُ المبرّرات لما يعانيه العمل الخيري في عامل المؤامرة وحده هو أسهل التعليلات للخلاص من المراجعة، والهروب من استحقاقات مواجهة الذات، وهو الوصفة السحرية لإبقاء الحال على ما هو عليه، بل والإيغال في ترديه.

إنّ من أهم مقاصد العمل الخيري في الفكر الإسلامي تحقيق حرية الإنسان، الذي تمثّل الحاجة والفقر والمرض والجهل أبرزَ عناوين استعباده. والعمل الخيري هو إحدى أهم بوّابات تحقيق الحرية؛ فمن أعظم ما يمكن أن يحقّقه في الأزمات الطويلة ــ التي تؤدي إلى تدمير واسعٍ للبنية البشرية والمادية، وتفقير ممنهج وتجهيل كارثي ــ هو فكّ الرقاب من ربقة الجهل، وتكسير أغلال الفقر، وتحرير المحتاج من العبودية وذلّ السؤال.

إلا أنّ ما يجري من محاولات لفرض توجهات سياسية أو فكرية تتبناها الجهات الداعمة أو المؤسسات الإغاثية والجمعيات الخيريّة، أو الابتزاز مقابل الانتصار لاتجاه سياسي أو تنظيم أو جماعة فكرية أو شرعية؛ يتناقض تمامًا مع الحرية التي ينبغي أن تكون القيمةَ الأسمى عند هذه المؤسسات. ولا يعدو هذا النوع من العمل الخيري أن يكون نقلًا للإنسان إلى شكل جديد من العبودية؛ فتحرير الإنسان من الفقر أو الجهل مقابل إخضاعه للتوجّه السياسي أو الديني هو من صور النخاسة، التي تلقى رواجًا في سوق العمل الخيري.

إنّ إلزام متلقّي المساعدات من المنكوبين والمحتاجين بالانتصار لتيار فكري أو سياسي معين أو جماعة أو تنظيم، وإحضارهم لتكثير الأعداد في المناسبات الخاصة بهذه الجماعات أو الأحزاب من مهرجانات أو احتفالات أو مظاهرات، أو الفرض عليهم أن يحملوا لافتات تناكف تيارات سياسية أخرى، أو إلزامهم التصويت لكتلة معينة أو مرشح معين في انتخابات برلمانية أو غير ذلك من الانتخابات، هو صورة من أبشع صور الاستعباد والاسترقاق لصالح الجماعة والتوجه الفكري والسياسي.

ومن صور الاسترقاق الباعث على الغثيان لصالح المؤسسة الإغاثية، أو الكيان الذي تتبع له، ما يجري من تصوير الفقراء والمنكوبين وهم يتلقّون المساعدات، أو إلزامهم بتوجيه رسائل شكر مرئية للجهة المتبرعة في مشهد ينتهك حرية الإنسان وكرامته، ويجري ذلك بذريعة التوثيق. وهنا لا بد من التأكيد على أن من حق – بل من واجب- الجهات الإغاثية القيام بالتوثيق فهو من أهم معالم العمل المؤسسي، لكن خلطا كبيرا يقع بين التوثيق وبين انتهاك حرية الفقير والمنكوب، فالتوثيق له آلياته ووسائله التي يجب ألا تمسّ المتلقي بأدنى حرج.

غياب الرساليّة والإنسانيّة

العمل الخيري عمل رسالي إنساني، وهو سمة المجتمعات الإنسانية والشرائع كلها، غير أنه بالنسبة للمسلمين يعدّ مرتكزا أساسيا في البناء والتغيير، منبثقا من تعاليم الإسلام الذي يحض على خدمة الإنسان، بغضّ النظر عن دينه وعرقه وجنسه وجنسيته وانتمائه. وهو من أبرز أعمال المجتمع الإسلامي في السلم والحرب؛ فهو في السلم زكاة مفروضة وصدقة تبرهن على صدق إيمان صاحبها، وفي الحرب جهاد بالمال يتقدم ذكره على الجهاد بالنفس في عموم النصوص الشرعية، ويستوي في الأجر الباذل والعامل والساعي.

ومن أهم أهداف العمل الخيري تحقيق وبناء السلم الأهلي والمجتمعي من خلال إعلاء قيمة الإنسان، وترسيخ أن لهفته تغاث فقط لأنه إنسان بغضّ النظر عن انتماءاته وفكره؛ وتختل هذه السمة وتغيب عندما تغلب على المؤسسات أو العاملين فيها النظرة الضيقة، والأنانية المناطقية أو الحزبية أو العصبية الجاهلة للدين.

فتقديم الإغاثة بناء على دين الفقير أو طائفته أو مذهبه أو تياره الفكري، وحصرها في الفقراء المتفقين فكريا مع الجهة الداعمة، هو من صور الاسترقاق والاستعباد التي تتناقض ومبدأ إنسانية الإنسان؛ وكذلك فإن اصطباغ العمل الإغاثي بالهوية المناطقية، بحيث تحصر المؤسسة الإغاثية المساعدات في أبناء منطقة أو مدينة معيّنة من المهجرين، وتحرم جيرانهم من المهجرين لكونهم ينتمون إلى مناطق ومدن أخرى غير التي تستهدفها المؤسسة الإغاثية، هو صورة تتناقض مع الرسالية والإنسانية في العمل الإغاثي.

عندها يتم فرز الناس مع طول الأزمة وإعادة صياغة المجتمع على شكل كنتونات هويّاتيّة، فكريا وحزبيا وسياسيا ومناطقيا، بعد تشظّي الهوية الإنسانية الجامعة؛ فيكون غياب الرسالية والإنسانية، واستحكام الأنانية الضيقة في العمل الخيري، سببا في تمزيق هذا النسيج الاجتماعي، بدل رتقه وإعادة خياطة ما مزّقته الحروب العلنية والخفية.

إنّ إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه إنسانا، بغضّ النظر عن دينه ومعتقده ومذهبه وفكره ومنطقته وانتمائه، ليكون هو محور العمل الإغاثي؛ هي أولى خطوات تحرير العمل الإغاثي ليغدو مسهما فاعلا في تحرير الإنسان.

وإنّ جعْل الفقر والحاجة معيارا أوحد في العمل الإغاثي، دون النظر إلى اعتبارات الدين والاعتقاد والانتماء الحزبي والفكري والمناطقي، هو الخطوة الأولى على طريق جعل العمل الإغاثي سبيلا لتحرير الإنسان وبناء المجتمعات المتماسكة الفاعلة؛ وهذا من أهم مقاصد العمل الإغاثي في الفكر الإسلامي وفي القوانين البشرية الراشدة على السواء.. وإلا فسيكون العمل الإغاثي عندها سببا في الأزمات، بدلا من أن يكون الوسيلة لحلّها وتفكيكها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...